تقرير اقتصادي: صفقة المعادن الأوكرانية تقرع أجراس إنذار للخليج

الكويت 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم يكن أكثر المتوجسين من عودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة يتصور أن تبدأ دورته الثانية بهذا الكم من السياسات والقرارات العنيفة والمفاجئة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، التي لم تستثنِ لا جيرانه ولا حلفاءه ولا حتى خصومه من قرارات غير مألوفة ولا معتادة في سياق تعامل الدول بعضها البعض سياسياً واقتصادياً، حيث لا قيمة لدى ترامب لا للدبلوماسية أو سيادة الدول ولا المصالح الاقتصادية والتجارية المتبادلة، ولا حتى للجغرافيا.

فخلال أقل من شهرين منذ توليه رئاسة الفترة الثانية في الولايات المتحدة، تجاوز ترامب حتى تعهداته المتشددة خلال حملته الانتخابية، كضغوطه على منتجي النفط لزيادة الإنتاج، وبالتالي خفض الأسعار، وهو على ما يبدو قد تحقق جزء منه، خصوصاً مع إعلان مجموعة منتجي «أوبك بلس» عودة زيادة الإنتاج التدريجي اعتباراً من أبريل المقبل، أو تعهداته بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وهو الانسحاب الثاني كما حدث في فترة رئاسته الأولى، فضلاً عن إلغاء كل قرارات سلفه جو بايدن البيئية المتعلقة بالإعفاءات الضريبية على السيارات الكهربائية، ووضع معايير لمحطات الطاقة النظيفة الجديدة، بما يصبّ في اتجاه التخلص التدريجي من الفحم والغاز الطبيعي، وصولاً إلى انتقاد استخدام «مصاصات الشرب الورقية»، والتعهد بالعودة إلى استخدام «البلاستيكية»، أو تهديداته بالرسوم الجمركية على الصين التي يمكن أن تُشعل حرباً تجارية عالمية، التي فرضها بواقع 10 بالمئة على واردات المنتجات الصينية إلى الولايات المتحدة.

لا قيمة لدى ترامب لا للدبلوماسية أو سيادة الدول ولا المصالح الاقتصادية والتجارية المتبادلة... ولا حتى للجغرافيا

الحالة الترامبية

غير أن الحالة الترامبية في الرئاسة الثانية لم تكتفِ بتعهدات حملته الانتخابية، فالحرب التجارية مع المنافس الأكبر عالمياً، أي الصين، توسعت لتشمل جارتَي الولايات المتحدة، المكسيك وكندا، مع التلويح بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي الذي يُعدّ حليفاً اقتصادياً وسياسياً مهماً لأميركا، مع مطالبات تتجاوز أبسط أدبيات الدبلوماسية بضمّ كندا إلى الولايات المتحدة كولاية برقم 51، ومعها جزيرة غرينلاند الثلجية الضخمة التابعة للدنمارك والاستيلاء على قناة بنما، فضلاً عن تهجير سكان غزة في فلسطين المحتلة، وتحويلها إلى منطقة للاستثمار العقاري، أو حسب وصف ترامب «ريفييرا الشرق الأوسط».

ثروة المعادن

ويأتي ما يُعرف باتفاقية المعادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا ليتوّج - حتى الآن على الأقل - مخاطر السياسات الفوضوية لترامب على الدول، فالاتفاقية - التي كان مقرراً توقيعها قبل المشادة الشهيرة بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الخارجة عن أي قواعد متعارف عليها دبلوماسياً - تنصّ على دفع 50 بالمئة من عائدات أوكرانيا من المعادن النادرة القابلة للاستخراج، إلى جانب النفط والغاز، في صندوق قيمته 500 مليار دولار يرى ترامب أنها الكلفة التي تحمّلتها الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا خلال الحرب ضد روسيا، في حين لا تحصل أوكرانيا مقابل ثرواتها المهدرة إلا على وقف الحرب، وغالباً وفق الشروط الروسية.

وبنظرة على ثروة المعادن قارياً وعالمياً، تُعد أوكرانيا أغنى دول القارة الأوروبية في ملكية المعادن، إذ تضم أراضيها 22 معدناً نادراً من أصل 30 معدناً تتوافر في أوروبا و50 معدناً تصنّفها الولايات المتحدة على أنها ذات «أهمية بالغة»، بقيمة إجمالية تبلغ نحو 15 تريليون دولار، وتحتل أوكرانيا المركز الرابع عالمياً في حجم احتياطيات المعادن النادرة، بعد الصين وأميركا وأستراليا، وتمتلك البلاد نحو 10 بالمئة من احتياطيات العالم من معدن الليثيوم المستخدم في إنتاج البطاريات و90 طناً من الزركونيوم المستخدم في المحركات النفاثة، كذلك تُعدّ أوكرانيا من بين أغنى 10 دول بمعدن التيتانيوم المستخدم في إنتاج الصواريخ والطائرات والسفن، فضلاً عن حصيلة متنوعة من معادن الفاناديوم، النيوبيوم، الكادميوم وعشرات المعادن النادرة عالمياً المستخدمة في صناعة التكنولوجيا والاتصالات والأسلحة وغيرها.

أوكرانيا كانت قبل أسابيع حليفاً أساسياً لأميركا ولا تزال تحظى بدعم أوروبا وبريطانيا... ولم يحمِ كل ذلك ثرواتها

سياسات يمينية

وفي الحقيقة، فإن صفقة ترامب هي استيلاء على ثروات أوكرانيا التي كانت - قبل أسابيع قليلة في عهد بايدن - حليف الولايات المتحدة ضد روسيا، وتحظى بدعم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا ومرشحة لدخول حلف ناتو، ومع ذلك لم يشفع لها كل ما سبق في التصدي للهجمة «الترامبية» التي باتت لا تتمحور فقط حول شخصية الرئيس ترامب، بل في انتشار نهجه داخل الحزب الجمهوري الأميركي، فضلاً عن أحزاب أوروبية ولاتينية تتماهى مع سياساته اليمينية، خصوصاً في المجر والنمسا والسويد، وأخيراً ألمانيا، فضلاً عن عودة أحزاب اليمين للحكم في أميركا اللاتينية، مثل كولومبيا والباراغواي والأرجنتين.

حكمة لا تشاؤم

من الحكمة لا من التشاؤم أن نطرح على أنفسنا، خصوصاً في دول مجلس التعاون الخليجي، أسئلة جادة حول كيفية التعاطي مع أوضاع عالمية مستجدة سمحت بالاستيلاء على ثروة بلد كان، قبل أسابيع قليلة، حليفاً يحصل على دعم عسكري ومالي غير محدود من الغرب والولايات المتحدة تحديداً، وهنا قد لا تتكرر فرضيات الاستيلاء على الثروات الخليجية بصورة مطابقة للحالة الأوكرانية، إنما ثمّة احتمالات لصيغ أخرى، ولعل دور ترامب خلال ولايته الأولى في الأزمة الخليجية عام 2017 لا يزال في الذاكرة، بما ترتّب عليها من صفقات سلاح وعقود استشارات ومحاماة وعلاقات عامة تجاوزت قيمتها مئات المليارات من الدولارات.

مصالح وأطماع

ودول الخليج العربية، ومعها العراق وإيران، هي مركز أساسي لمصالح العالم وحتى أطماعه، فهي تستحوذ على ما يناهز 50 بالمئة من إجمالي احتياطيات النفط المؤكدة عالمياً، وتمتلك صناديق سيادية مستثمرة في الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا قيمتها التقديرية تتجاوز 3 تريليونات دولار، وهي معرّضة بحكم اعتمادها المفرط على إيرادات النفط - حتى في تشغيل اقتصادها غير النفطي - ومعاهدات الدفاع الأميركية لاحتمالات الابتزاز الترامبية في مجالات رفع المخاطر الجيوسياسية بالإقليم، أو الضغط على أسعار النفط، أو إعادة التلويح بضرائب «نوبك» ضد منتجي «أوبك»، أو توجيه الصناديق السيادية الخليجية أو غيرها من السياسات التي يصعب توقّعها مع ترامب.

قيمة ثروات أوكرانيا من المعادن النادرة المستخدمة في صناعات السلاح والبطاريات والتكنولوجيا تقدّر بنحو 15 تريليون دولار

تشابك وحوكمة

وبقدر ما لا يمكن توقّعه من ترامب لا مع جيرانه ولا حلفائه أو خصومه، فإن الحاجة في منطقة الخليج العربي للخطوات الاحترازية تبدو حقيقية، وهي تتطلب تبنّي سياسات دفاعية وأبحاث ودراسات جادة تضمن استدامة المنطقة وتوجيه ثرواتها بما يخدم مستقبلها من خلال أولاً: تشابك المصالح الاقتصادية في الإقليم الخليجي، حيث تكون منطقة فاعلة وسط العالم في تقديم الخدمات والتجارة حتى ولو كان هذا التشابك الاقتصادي في بداياته مرتبطاً بدول مجلس التعاون، وثانياً عبر تحسين آليات الإدارة التي تضمن حوكمة إدارة الثروات وشفافيتها، وإعطاء مساحة أكبر لأبناء المنطقة الخليجية في اتخاذ القرارات ورسم السياسات... فالعالم الذي يسمح لرئيس دولة حتى ولو كانت عظمى بالاستيلاء «العلني» على ثروة بلد، لا شك في أنه يتطلب سياسات وقرارات غير مألوفة، وأكثر جدية واستدامة واحترازاً مما سبق.

أخبار ذات صلة

0 تعليق