شهد المجتمع الكويتي مؤخراً تحولاً ملحوظاً في ثقافة القهوة، حيث أصبحت القهوة – بمختلف أنواعها – جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، ولا يكاد يُرى أحد في الشارع إلا وبيده كوب منها. هذا التوجّه الاجتماعي خلق تجارة مزدهرة تدور حول بيع وتحضير واستهلاك القهوة، حتى تحوّلت إلى عنصر بارز في السوق المحلي، خصوصاً في أوساط الشباب.
ومن هذا المنطلق، أثير لغط كبير حين طرحت شركة المطاحن الكويتية، وهي شركة توصية بسيطة حكومية مملوكة للدولة بنسبة 100 في المئة، منتجات قهوة بأسعار أقل من المتعارف عليها في السوق. هذا الطرح انقسمت حوله الآراء، بين مؤيد يرى أنه واجب الدولة في ضبط الأسعار ودعم المستهلك، ومُعارض يرى فيه إضراراً بالتاجر ومبدأ المنافسة.
لذا، كان لابد من التوقف عند هذا الحدث ودراسته من زاوية قانونية واقتصادية، بدايةً بالتعرّف على طبيعة «المطاحن»، فهذه الشركة، بحكم ملكيتها الكاملة للدولة، لا تعمل كأي تاجر آخر في السوق يهدف إلى الربح، بل تلتزم بما فرضه الدستور الكويتي على الدولة من واجبات، فنجد في المادة 20 من الدستور ما ينص على أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية»، وفي ذلك نرى أن شركة المطاحن لا تهدف إلى الربح بشكل أساسي، وذلك ملموس من أسعارها التي تعتبر رمزية بالمقارنة ببقية المنتجات الأجنبية أو الكويتية غير المدعمة من الدولة.
بل إن تسعير الشركة لمنتجاتها يعد نوعاً من أنواع تأمين المواد الأساسية لكل مواطن، وهذا لب دعم العدالة الاقتصادية الاجتماعية الذي يحاكي المادة المذكورة، وإنما يعد تسعيرها هذا تأميناً لاحتياجات المواطن، ودعماً للعدالة الاقتصادية الاجتماعية، خصوصاً عند الأخذ بالحسبان أن القهوة أصبحت جزءاً من الثقافة اليومية للمجتمع، لذا لا يُستغرب أن تُحتسب من السلع الأساسية وفقاً للمفهوم الحديث الاقتصادي للسلع والخدمات. أما عند النظر إلى المادة 21 من الدستور فسنجدها نصّت على أن «الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك للدولة، وتقوم على حفظها وحسن استغلالها... بمراعاة اقتصاد الدولة الوطني». ورغم أن منتجات «المطاحن» ليست ثروات طبيعية من المواد الخام كالنفط مثلاً فإنها تتعامل مع القمح والطحين والمواد الأساسية التي تمسّ الأمن الغذائي، وبالتالي فهي بطبيعتها تمسّ صميم الاقتصاد الوطني.
وعند النظر إلى النظام الاقتصادي في الكويت نجد أن المشرّع لم يتبنَّ النظام الرأسمالي المطلق، بل اختار طريقاً وسطاً يجمع بين النظم الاقتصادية: الرأسمالية والاشتراكية والإسلامية. وهذا التنوع في الأسس يجعل من تدخل الدولة في السوق أمراً مشروعاً، بل مطلوباً، فمبدأ «السوق الحر» الذي ينادي بعدم تدخل الدولة بتاتاً في الاقتصاد، والاعتماد على قواعد العرض والطلب في التجارة وانعكاس ذلك على الاقتصاد، لا تجد له مكاناً في الواقع الكويتي، فالدولة دستورياً واقتصادياً لها دور واضح ومشروع في ضبط التوازن بين العرض والطلب بما يخدم المستهلك ولا يضر بالتاجر.
أما من الناحية القانونية فإنه بالرجوع إلى قانون حماية المنافسة نجد في المادة الرابعة أن المرافق العامة والشركات التي تقدم سلعاً أساسية تُعفى من تطبيق هذا القانون إذا صدر بذلك قرار من مجلس الوزراء. وحتى في حال عدم صدور القرار بشكل صريح نرى أن طبيعة هذه الشركة كونها تقدم سلعة أساسية، يجعلها معفاة من تطبيق هذا القانون رغم عدم حدوث ذلك في الواقع. وإن افترضنا خضوعها، فلا نجد مخالفة منصوصاً عليها تحاكي هذا التسعير.
فالمحظور في التسعير هو المنصوص عليه في المادة 51 من اللائحة التنفيذية التي تنص على أنه «يحظر على الشخص المهيمن إساءة استغلال الهيمنة بهدف الحد من المنافسة أو تقييدها أو منعها.... مثل 1- القيام بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتحديد أو فرض أسعار المنتجات». لكن لا يتصور تطبيق هذه المادة هنا وذلك لسبب واضح، وهو أن المطاحن ليست تاجراً أو شخصاً مهيمناً على سوق وتجارة القهوة، كما أن المادة التي تلي هذه تحدد مركز الشخص المهيمن، ومن ضمنها «الحصة السوقية للشخص المعني ومستوى المنافسة الفعلية». وبالنسبة لحصة شركة المطاحن في سوق القهوة فلا تكاد تذكر من ضآلتها. كما جاء في قرار وزاري لاحق 25/2021 أن تحديد ما إذا كان الشخص يبيع المنتج بسعر يقل عن تكلفته الجدية أو متوسط تكلفته المتغيرة يكون استناداً إلى نتيجة فعل هذا المنافس.
إذا كانت النتيجة إخراج أشخاص منافسين من السوق، أو منع دخول جدد أو منح الشخص المسيطر القدرة على رفع الأسعار بعد إخراج المنافسين، فهنا تأتي المخالفة. وهذا النص ولو لم يطبق على الشركة، فإنها ليست شخصاً مسيطراً أساساً لكي يؤثر تسعيرها هذا بشكل مباشر على المنافسين الآخرين. كما تجدر الإشارة إلى أن «المطاحن» ليست المنافس الوحيد الذي يقدم القهوة بهذا السعر، فمقهى IKEA مثلاً، المملوك ملكية خاصة تماماً، يقدم ذات السلعة بذات سعر «المطاحن»، والذي لم يُخَالَف على هذا التسعير.
خلاصة القول، إن ما قامت به شركة المطاحن هو امتداد طبيعي لدور الدولة في حماية المستهلك وتوجيه الاقتصاد بما يحقق العدالة الاجتماعية. فالدولة تملك أدوات عدة لضبط السوق، إما من خلال التسعير الجبري، أو الإجراءات التنظيمية الصارمة، أو التسيير التجاري غير المباشر كما هو الحال مع «المطاحن»، ومن هنا نرى أن هذه الخطوة تحمل بعداً اجتماعياً واقتصادياً محموداً، خصوصاً في ظل ما استشعره المواطن الكويتي من مغالاة غير مبررة في أسعار القهوة.
*محامية بالقانون التجاري
0 تعليق