تقرير اقتصادي: سحب الجناسي يفتح الأبواب للاقتصاد الأسود!

الكويت 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بينما تستمر عمليات سحب وفقد الجنسية الكويتية بما تجاوز 10 آلاف حالة حتى الآن - معظمهم من النساء المجنسات وفق المادة 8 من قانون الجنسية الكويتية - تتصاعد المخاطر الاقتصادية فيما يتعلق بتقلُّص دائرة الشمول المالي، أو ما يُعرف بـ «نمو الاقتصاد الخفي» خارج المنظومة الرسمية بكل ما يوفره هذا السلوك من مخاطر ذات طابع مالي وأمني، عبّرت عن بعضها تقارير مجموعة العمل المالي الدولية «فاتف».

ويمكن تعريف الاقتصاد الخفي أو «الاقتصاد الأسود» بأنه كل ممارسة مستترة غير مقيدة في المنظومة العامة للدولة تؤدي في النهاية إلى تعاملات مالية أو خدمية غير مشمولة ضمن إحصاءات الحكومة، ولا تدخل ضمن حسابات الناتج المحلي الإجمالي، وفيها جوانب سرية أو غير معلنة، وفي النهاية تفضي أو تساعد في أن تكون - ولو بغير قصد - قناة للجرائم المالية خارج النظامين المالي والمصرفي.

وبنظرة على البيانات الرسمية للاقتصاد المحلي، فإن إجمالي ودائع القطاع الخاص في البنوك الكويتية حتى نهاية أكتوبر 2024 بلغ 39 مليار دينار، 55 بالمئة منها للأفراد، أي ما يقارب 21 ملياراً، وقيمة سوقية لبورصة الكويت تناهز 43 ملياراً يشكّل الأفراد ثاني أكبر مكونات التداولات فيها، بنسبة تصل إلى 40 بالمئة من حجم التعاملات في السوق، وسوق عقار متنوع التقييمات بين تجاري واستثماري وسكني تراوح قيمته بين 50 و60 ملياراً، فضلاً عن استملاكات الأراضي الصناعية والتجارية والأمن الغذائي، مع الأخذ بعين الاعتبار تصاعد عمليات البطاقات المصرفية في التعاملات بالسوق، لتتجاوز حتى نهاية الربع الثالث 2024 أكثر من 11.9 ملياراً من نحو 35 ملياراً هي جملة التعاملات والتحويلات والمصروفات داخل الكويت أو خارجها، وبالتالي، فإن شيوع خطر سحب الجنسية من مئات أو عشرات الآلاف من المواطنين هو أمر محفز لسلوكيات «دفاعية» لدى من يتعرّضون لهذا الخطر، حيث يغلب لديهم توجهات تسييل الأصول، كالأسهم والودائع والعقارات وسحب «الكاش» أو استخدامه في التعاملات خارج المنظومة المصرفية، أو تحويل الأموال الى خارج البلاد، لتلافي حجزها أو تقييد الحسابات المصرفية، وهذه سلوكيات تضغط على الأمان المالي في الاقتصاد وتخفض جاذبيته.

اتخاذ إجراءات دفاعية كتسييل الأصول مثل الأسهم والودائع والعقارات وسحب «الكاش» تضغط على الأمان المالي في الاقتصاد

شمول و«فاتف»

ولا شك في أن مجرد الحديث عن وجود فئات بمئات الآلاف من المواطنين تصل أعدادهم إلى ثلث أو نصف الكويتيين هو أمر بالغ الخطورة ليس فقط اجتماعياً أو سياسياً، إنما أيضاً مالياً واقتصادياً، وقد يؤدي إلى حركة مربكة بمليارات الدنانير في قطاعات الأصول والنقد والتعاملات، فكيف إذا تحوّل الحديث إلى حالة شبه عامة تستهدف تسييل أو تحويل 5 أو 10 مليارات دينار مثلاً، كإجراء دفاعي قبل اتخاذ إجراءات بسحب الجنسية وما يترتب عليها من نتائج كوقف الحساب المصرفي أو التعامل التجاري، لحين الدخول في «مجهول» سياسات الجهاز المركزي لـ«البدون»، وهو أمر في أبسط نتائجه يقلّص دائرة الشمول المالي التي يسعى بنك الكويت المركزي لتعميمها، حيث يصل أفراد المجتمع كافة، فضلاً عن الشركات، بغضّ النظر عن مستوى الدخل أو الوظيفة، الى الخدمات التي توفرها المؤسسات المصرفية والمالية، فضلاً عن كونه في نتائج أكبر على البلاد وسمعتها المالية يعزز من دائرة الاقتصاد الخفي أو الأسود، والذي حذّرت منه «فاتف» فيما يتعلق بارتفاع التعاملات النقدية في السوق التجاري، بما يسهل التلاعبات والبيئة السهلة أو الرخوة للجريمة المالية.

ارتباك وتناقض

ولعل الارتباك وعدم الوضوح الذي شهدته أجهزة الدولة عقب إجراءات سحب الجنسية من آلاف المواطنين والمواطنات ساهم في رفع درجة القلق تجاه الأموال والأصول، فرغم التعهدات الرسمية باستمرار صرف الرواتب ومعاشات التقاعد والمزايا المالية كافة لمن سحبت جنسياتهم وفق المادة الثامنة، وهي الشريحة الأكبر من فئات السحب، فإنه تبيّن لاحقاً أن صرف المعاشات التقاعدية يتطلب قانوناً خاصاً، والرواتب للموظفات من هذه الفئة تحتاج إلى عقود مختلفة عن العقود الحكومية السابقة، فضلاً عن وقف وزارة الشؤون صرف المساعدات الاجتماعية عن المسحوبة جناسيهم، وهذه كلها تُناقض التعهدات الحكومية باستمرار صرف المزايا المالية عن شريحة النساء، بل إن الربكة في التعاطي مع الملف وصلت الى الإعلان عن متطلبات «براءة الذمة» من 14 جهة حكومية لصرف «بطاقة البدون» من الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير قانونية، ثم إلغاء الإعلان لـ «وضع تصوّر جديد يهدف إلى تيسير الإجراءات المطلوبة للحصول على البطاقة الجديدة»، كما ورد في البيان الرسمي للجهاز.

أي جهة اقتصادية أو مالية في البلاد لم تصدر أي تعميم يوضح آلية التعامل مع التزامات وأملاك المسحوبة جنسياتهم أو حجمها وتأثيراتها على الاقتصاد

لا شهادة ولا تعميم

وما يشير الى ربكة أجهزة الدولة في إدارة تداعيات ملف المسحوبة جنسياتهم، هو أنه لم تصدر أي جهة اقتصادية أو مالية في البلاد، سواء كان بنك الكويت المركزي أو التأمينات الاجتماعية أو هيئتا الصناعة أو أسواق المال، وغيرها من الجهات والهيئات الحكومية، أي تعميم من شأنه أن يوضح التعامل مع التزامات وأملاك المسحوبة جنسياتهم أو حجمها وتأثيراتها على الاقتصاد والسوق المحلي، سواء كانت قروضاً أو ودائع أو رهونات أو إيجارات أو غيرها، الى جانب آلية التعامل مع الأملاك الخارجية لهذه الفئة المستحدثة، وهو ملف يزداد حساسية كلما ارتفع عدد الفئات التي يشملها سحب الجنسية.

متاح ومحظور

وفي الحقيقة، فإن أكبر مشكلة في ملف سحب الجنسية هو ما يتعلق بـ «رجعية العقوبة»، أي تطبيقها بأثر رجعي على النساء الحاصلات على الجنسية الكويتية من دون تزوير أو ازدواجية، وهو أمر فضلاً عن كونه يمسّ مراكز قانونية مستقرة وله آثار اجتماعية سلبية، إلا أنه أيضاً يروج لصورة سيئة بشأن آليات تطبيق القانون على أي مستثمر يريد وضع أمواله أو أعماله في الكويت، فرجعية العقوبة تعطي صورة ضبابية تجاه المستقبل لدى أي مستثمر بإمكانية الرجوع للتعامل مع ما هو متاح حالياً كمحظورات مستقبلاً، وهو أمر مربك، ومجرد أن يصبح انطباعاً عاماً من شأنه أن يكون سلوكاً طارداً يحرم البلاد من الكثير من الأموال أو الأعمال والأنشطة، وهذا بلا شك يخالف ويعاكس جميع خطابات «الإصلاح الاقتصادي الحكومي» المتكررة.

آخر ما تحتاجه الكويت أن تنشغل بقضية غير واضحة المعالم كتداعيات سحب الجنسية فالبلاد أمامها تحديات واضحة تتعلق بالاستدامة والمستقبل

انشغال واستحقاق

في النهاية، فإن آخر ما تحتاج إليه الكويت اليوم هو أن تنشغل بقضية ليست ضرورية وغير واضحة المعالم، كموضوع تداعيات سحب الجنسية التي تحتاج إلى تعامل محترف، يعرف كيفية تحديد الفئات المخالفة، وآلية التعاطي المالي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني معها، بعد التأكد من وجود جريمة من عدمه، فالبلاد أمامها تحديات واضحة في قطاعات متعددة هي أكثر استحقاقاً من أي ملف آخر، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والتعليم وسوق العمل والمالية العامة والخدمات، وكل ما له علاقة بالاستدامة والمستقبل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق