قال الكاتب والسياسى السورى، غياث نعيسة، إن نظام الرئيس السورى بشار الأسد كان عبئًا على السوريين وعلى حلفائه، كما أن وقوفه متفرجًا أمام ما يتعرض له الفلسطينيون واللبنانيون أفقده آخر أوراق ادعائه بأنه «قلب محور الممانعة»، وما حدث منذ أسابيع كان انهيارًا لنظام متكلس ومتآكل من داخله، وليس إسقاطًا للنظام، موضحًا أن «هيئة تحرير الشام» كانت أداة الإعلان عن موت النظام، بعد أن رفض عرضًا تركيًا بتطبيع العلاقات. وأوضح «نعيسة»، خلال حديثه لـ«الدستور»، أن سوريا تمر حاليًا بصراع بين الإرادات، فى ظل رغبة الشعب السورى فى التخلص من الاستبداد والاستعمار إلى الأبد، بعد الابتهاج بانزياح كابوس «آل الأسد»، الذى جثم على صدوره لمدة ٤٠ عامًا، مشيرًا إلى أن تركيب البلاد العرقى والدينى والمدنى لا يسمح بـ«الأفغنة»، بالإضافة إلى تعرض الحكم الجديد إلى ضغط كبير من الشعب المطالب بالديمقراطية، بالإضافة إلى مطالبات القوى الدولية والإقليمية بتقديم تنازلات فى العديد من الملفات.
■ بداية.. كيف تقرأ ما حدث فى سوريا فى الأسابيع الأخيرة؟
- أعتقد أن فهم ما جرى يتطلب قراءته على أكثر من صعيد، وفى سياق تطور الأحداث والفاعلين فى الواقع السورى، فقد اندلعت ثورة شعبية تطالب بالحرية والعدالة فى عام ٢٠١١، بعد أن عاش الشعب تحت حكم قمعى ووراثى لأكثر من ٤٠ عامًا، ورد نظام الأسد الابن على المطالب السلمية بالعنف والنار، فانشق ضباط وجنود، وحمل مدنيون السلاح، وأصبحت سوريا ساحة للقتال المسلح الأهلى، وهزمت الثورة الشعبية ببحر من الدماء، فقد قتل نحو مليون إنسان.
وعندما تهمشت سيطرة نظام بشار الأسد على الأرض استدعى الأمر تدخلًا عسكريًا لحليفيه، روسيا وإيران، كما تدخلت أمريكا وحلفاؤها عسكريًا، وتدخلت تركيا بدورها من خلال دعم فصائل إسلامية، كما أنها احتلت أجزاءً من الأراضى السورية.
وهذه الحقبة الطويلة من التحارب أدت إلى خراب كبير، ودمار للبنى التحتية، وتهجير نصف الشعب السورى، وإفقار غالبيته، ووصل الإنهاك العام للمجتمع السورى ليشمل النظام نفسه، فقد تفككت أجهزته وفقد حاضنته الاجتماعية التى كان يستند إليها، وعجز عن تأمين مقومات الحياة فى مناطق سيطرته، كما أنه عجز عن تقديم أدنى تنازلات سياسية تسمح بالخروج من اليأس العام إلى نوع من التفاؤل فى مستقبل أفضل لعموم السوريين، حتى أصبح النظام عبئًا على السوريين وعلى حلفائه أنفسهم.
■ ما أسباب السقوط السريع لنظام الرئيس بشار الأسد؟
- ما سارع فى سقوط النظام هو أن روسيا انشغلت أكثر بالحرب فى أوكرانيا، وإيران و«حزب الله» تعرضا إلى نكسات عسكرية كبيرة، وهما الحليفان الأساسيان المعنيان بحماية نظام الأسد.
كما أن تركيا، وهى لاعب أساسى، ردت على رفض النظام تطبيع علاقته مع نظام الرئيس رجب طيب أردوغان باللجوء إلى خيار إسقاطه، ولم تجد مَن يخدم مصالحها ويقوم بالمهمة أفضل من «هيئة تحرير الشام»، لتكون أداة إعلان موت النظام المتآكل.
أى أن ما جرى هو انهيار للنظام وليس إسقاطه، فقد رفض الجيش القتال وتلاشى هو وكل أجهزته، ونزل السوريون إلى الشوارع لإعلان سقوط النظام، فلم تجر معارك تُذكر، بل مات نظام متهالك فقد مقومات الحياة، فالثورة السورية عام ٢٠١١، وبغض النظر عن هزيمتها، هى التى ضعضعت أركان النظام، وأضيف إليها أن النظام نفسه كان متكلسًا ورافضًا لأى تغيير أو إصلاح، فانتهت صلاحيته.
وبانهيار نظام آل الأسد فقد انزاح كابوس كان يجثم على صدور السوريين، وخرج السوريون يبتهجون بذلك، ويعبرون عن آرائهم بحرية، ويشكلون أحزابًا وتجمعات ونقابات وغير ذلك، أى إنهم اليوم يتعلمون من جديد العمل العام، بعيدًا عن أجهزة القمع للنظام السابق التى سحقت كل أشكال المعارضة.
ويقوم السوريون اليوم بالمطالبة بالعدل الاجتماعى، وبناء سوريا ديمقراطية، ولا يخشون الانتقاد أو الاحتجاج على قرارات الحكومة المؤقتة، التى تتراجع أمام الضغط الشعبى.
والشعب السورى، بقواه السياسية والاجتماعية الداعية إلى بناء نظام ديمقراطى لا طائفى، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وإخراج المحتلين، واستعادة سيادة الشعب السورى على أراضيه وإرادته، وأيضًا حماية حقوق الأقليات الدينية والقومية، ولا سيما الحل العادل للقضية الكردية بوصفها قضية وطنية وديمقراطية- هذه القوى الديمقراطية تحتاج إلى دعم كل الأشقاء فى المنطقة لإعادة بناء سوريا الحرة والمستقلة.
■ ما العلاقة بين ما حدث فى سوريا وما حدث ويحدث فى غزة الآن؟
- لعبت الحرب على قطاع غزة، منذ عملية «طوفان الأقصى»، قبل أكثر من عام، دورًا فى التغيرات فى المشهد العام للشرق الأوسط، فقد تعرض الشعب الفلسطينى ولا يزال إلى حرب إبادة إسرائيلية بدعم غربى، وتم إضعاف «حزب الله» اللبنانى، وإنهاك الوجود الإيرانى فى سوريا والمنطقة، بل وخروج نفوذ طهران منها إلى حد كبير.
والملفت للنظر أن نظام الأسد وقف متفرجًا أمام المذبحة الجارية، وهو الذى يدّعى أنه قلب محور المقاومة.
لقد فقد نظام الأسد البائد بتخاذله أمام الحرب التى تعرض لها الشعب الفلسطينى وحلفاؤه آخر الأوراق التى كان يدّعى امتلاكها، فى حين أننا نجد أن الجماهير السورية الحرة خرجت عارية الصدور لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلى، التى تقدمت فى جنوب سوريا بعد سقوط النظام.
■ ألا يخشى الشعب السورى من تحول البلاد إلى أفغانستان جديدة تحت حكم «هيئة تحرير الشام»؟
- سوريا ليست أفغانستان، فلا السوريين يقبلون بذلك، ولا تركيب سوريا المدنى يسمح بذلك، ولا التعددية العرقية والدينية الكبيرة توفر شروطًا ملائمة لـ«الأفغنة».
فالحكم الجديد لا يزال ضعيفًا، ولا يمتلك بعد قاعدة اجتماعية له، وهو كذلك يتعرض إلى ضغوط من داخله للانزياح إلى مشروعه السلفى، ولكن الحكم يتعرض إلى ضغط أكبر من الشعب السورى الذى يطالب بالديمقراطية، ويرفض التنازل عن الحرية التى انتزعها بتضحيات كبيرة. كما أن الحكومة المؤقتة تتعرض إلى ضغوط دولية وإقليمية لتقديم تنازلات لمصالح هذه الدول. وهذا المشهد يجعل من تحول سوريا إلى أفغانستان أضعف من غيره، ولكن إن جنحت سلطة الأمر الواقع لـ«هيئة تحرير الشام» إلى احتكار السلطة وفرض برنامجها الأيديولوجى فإن البلاد ستكون عندئذ مهددة بالذهاب إلى أتون حرب أهلية دموية.
■ كيف تقرأ التغير الذى طرأ على تصريحات ومظهر أبومحمد الجولانى وتغيير اسمه إلى أحمد الشرع؟
- ما ذكرته من قبل يُجيب عن هذا السؤال، فتسلم فصيل مسلح السلطة بالمعطيات التى ذكرتها تفسر كيف أنه يتأثر ويتأقلم مع تغير الظروف، والعامل الأهم فيها هو الضغط الشعبى، المطالب بضمان الحريات العامة وبناء نظام ديمقراطى لا طائفى.
■ ألا يخشى السوريون من عودة «داعش»؟
- بقاء التفكك الاجتماعى والجغرافى والسياسى لسوريا، ووجود بعض المجموعات من الجهاديين المتشددين، الذين جلبتهم «هيئة تحرير الشام» تحت عباءتها، يشكلان عاملين قد يهيئان الظروف لانحدار استبدادى دينى الطابع، ما يزيد من البؤس واليأس الذى قد يصيب حينئذ قطاعات من السوريين، فى حال توقفت عملية البناء الديمقراطى، وغابت سياسات العدل الاجتماعى.
■ ماذا عن جماعة الإخوان؟
- «الإخوان» لا تلعب فى الوضع السورى الراهن دورًا يُذكر، فهى فى سوريا راهنت على سيطرتها على ما يسمى «الائتلاف الوطنى»، برعاية قطرية وتركية، ولكن هذا الكيان فاشل ومنبوذ، وكان خلال العقد الماضى مرتعًا للفاسدين، وهو مفضوح ومكروه من غالبية السوريين.
■ فى أى شىء يختلف «الإخوان» عن «طالبان» وعن «هيئة تحرير الشام»؟
- لن أسهب فى الإجابة عن هذا السؤال، لكن علينا أن نعرف أن «الإخوان» تنظيم سياسى له قاعدة اجتماعية ما، ولا أتحدث هنا عن الأيديولوجيا، فى حين أن «هيئة تحرير الشام» بالأخص، وغيرها من الفصائل المسلحة، تجند من أبناء البرجوازية الصغيرة المغامرين، خاصة فى الحالة السورية، وكتلة كبيرة من عناصرها هم من أبناء المخيمات، أى من الذين هجروا من بيوتهم وبلداتهم نتيجة وحشية نظام الأسد، أما «طالبان» فهى مزيج من أمراء الحرب والعشائر.
■ فى تقديرك.. ما الأسباب التى أدت لعودة جماعات الإسلام السياسى إلى الساحة السياسية مرة أخرى؟
- لقد كانت التنظيمات السياسية الحاملة خطابًا إسلاميًا، وما زالت، تعبيرًا عن أزمة مجتمعاتنا، بل بالأحرى تعبيرًا عن أزمة الأنظمة السياسية الحاكمة وسياساتها القمعية واللا اجتماعية، لذا لا يمكن أن يكون الحل لهكذا أزمة قمعيًا أو أمنيًا، لأن ذلك سيفاقم الأزمة والأشكال السياسية المعبرة عن رفضها، عوضًا عن إضعافها.
كما أن غياب الحريات العامة والديمقراطية، برأيى، هو الأرضية التى تمنع نهوض حياة سياسية تعددية، يكون فيها للديمقراطيين دورٌ فاعل فى كبح كل نزوع استبدادى.
وغياب الحريات الديمقراطية يعنى غياب نقابات ومنظمات اجتماعية مستقلة، فى حين أن هذه المنظمات هى التى تجمع الناس فى نشاطها على أسس اجتماعية عامة وليس على أسس دينية أو غيرها، وهى أفضل مساحات النشاط المناهض لتقسيم الناس على أساس دينى أو عرقى أو جنسى.
هل ما حدث بسوريا يمكن أن يتكرر فى دول أخرى؟
- ما تشهده سوريا اليوم هو أن الشعب السورى انتزع بتضحياته حريته وحقه بالنشاط الحر والتعبير عن نفسه كما يشاء، ولا يعود الفضل فى ذلك إلا لتضحياته على مدى عقود من الزمن، ولا سيما مع ثورته عام ٢٠١١ فى مواجهة نظام سلبه حريته وكرامته وأوغل فى إفقاره. وسوريا اليوم تمر بمرحلة انتقالية، تتصارع فيها الإرادات، ونعمل على أن تنتصر إرادة الشعب السورى بالخلاص من الاستبداد، كل أشكال الاستبداد وإلى الأبد، وأتمنى لكل الشعوب التى تعانى من الاستبداد أو الاستعمار أن تتحرر منهما. وأتمنى من الدول الغربية ألا تضيف الأعباء علينا وعلى عملنا من أجل الحرية والمساواة فى بلداننا، لأن سياسات حكوماتها الشعبوية المعادية للأجانب واللاجئين والقاتلة للحريات ونهوض الإسلاموفوبيا فيها- هى التى تغذى التربة الخصبة لما نشهده فى بلداننا من عمليات إرهابية، فلتكف عن دعم الديكتاتوريات ودعم إسرائيل ونهب بلادنا، ونكون بذلك لها من الشاكرين، لأن شعبًا حرًا يعيش بكرامة هو الضمانة لعالمنا.
0 تعليق