حوار ينشر لأول مرة.. يوسف شاهين: أنا وريث الإسكندر الأكبر

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

- محمود المليجى كان له تأثير بالغ فى حياتى الفنية وهو أكثر ممثل شاركنى أفلامى

- العالم لهث خلفى بعد عرض «كاليجولا».. وصحف مصر لم تنشر عنى سوى خبر صغير

- أشعر بأن هناك موقفًا إعلاميًا مصريًا يهدف إلى تصفيتى واستنزافى

- «عبدالناصر» بالنسبة لى أكثر من مجرد زعيم كان رمزًا حيًا لرفض الهيمنة والاستعباد

 

لا يحتاج إلى تعريف، فهو أكثر من مجرد مخرج، يمكن وصفه بالفنان الشامل الحالم، وصاحب الرؤية الفريدة التى سبقت عصره، كما أنه صاحب بصمات تجاوزت حدود التقليد وكسرت القوالب النمطية فى كل أعماله، ليعش حياة مليئة بالصخب لم يهدأ فيها لحظة واحدة.

إنه المخرج المصرى العالمى يوسف شاهين، الذى لا يريد أن يموت، وكيف يموت وأعماله حاضرة تذكر الإنسانية كلها به، وتتجلى فى نحو ٣٧ فيلمًا نشرت المتعة والجمال فى قلوب مشاهديها، وتعد من أجمل ما أنتجته السينما المصرية والعربية.

هذا المخرج العملاق التقيت به عام ١٩٩١، داخل مكتبه الكائن بشارع «شامبليون» فى قلب القاهرة، والذى يقع أسفل مقر شركة «أفلام مصر العالمية»، بحضور صديقه ورفيق دربه الإبداعى فى سنواته الأخيرة، جابى خورى، بالتزامن مع بدء بروفات مسرحيته «كاليجولا» على خشبة مسرح الكوميدى «فرانسيز» فى باريس. 

أسفر هذا اللقاء الفارق عن حوار صحفى أجريته مع المخرج العملاق ولم يُنشَر من قبل، وهو حوار نلتقى خلاله بـ«شاهين» فى لحظة تأمل وصدق، يكشف خلالها عن محطات حياته، ورؤاه الفنية، ومواقفه الجريئة التى صنعت منه شخصية مثيرة للجدل ومحبوبة فى آنٍ واحد.

يأخذنا يوسف شاهين فى رحلة عبر ذكريات الطفولة فى الإسكندرية، المدينة التى شكلت وجدانه، إلى نجاحاته العالمية وخاصة مسرحيته «كاليجولا» التى عُرضت فى باريس، وغير ذلك من الأعمال.

الحوار الذى تنشره «حرف» فى السطور التالية، ليس مجرد كشف عن أفكار المخرج الكبير، بل نافذة إلى روحه، فبين سطور الحديث، سنجد الحالم الباحث عن الخلاص، والفنان الذى يرى فى كل عمل إبداعى فرصة جديدة لتغيير العالم، والإنسان الذى عاش بصخب، وأحب بعمق، وحارب من أجل الحرية والإبداع.

 

■ ماذا تمثل لك تجربتك المسرحية الأولى «كاليجولا»، التى تُعرَض على مسرح «فرانسيز»، ومأخوذة عن نص لـ«ألبير كامو»؟

- هذا النص الذى استمر عرضه لمدة ٦ أشهر فى العاصمة الفرنسية باريس، كان حلمًا يراودنى منذ عشرين عامًا ويزيد، وهذه تعتبر المرة الأولى التى يتم فيها اختيار مخرج عربى أو مصرى لإخراج مسرحية فرنسية.

عملت على نص «كاليجولا» لأكثر من عام، وانفتحت مسامى بفضل جمال النص الأدبى، فهذه المسرحية كتبها «كامو» عام ١٩٤٥، وهى تطرح مفهوم الحرية فى المطلق. فقد اشترك «كامو» بالقول والفعل فى مقاومة الاحتلال النازى لبلده فرنسا.

لاقت المسرحية عند تقديمها للمرة الأولى حفاوة بالغة، حتى إن «كامو» بات يردد وقت إخراجها الأول «ما زلت أحيا»، فقد كان يرى أنه لا بد للمبدع الحق أن يستمر فى مقاومة كل ألوان الاستعباد والقهر، ولا بد أن يتمتع الإنسان فى كل مكان وزمان بالحرية والكرامة والعدل.

■ ما الهم المشترك فى رؤيتك أنت وألبير كامو لمقاومة القهر والاستبداد؟

- لقد حاولت أن أشارك ألبير كامو رؤيته فى السخرية من الحكم المطلق، وتأكيد أن هذه القصة العظيمة لهذا الحاكم، قصة انتحاره، ما هى إلا رؤية وفلسفة عدمية لحاكم ضاق بمنطق الناس والأشياء، وأراد أن يقدم بحياته شهادة صدق على عصره، تؤكد أن مفهوم الحرية لا بد أن يقوم على أساس العدالة بين الحاكم والمحكوم تحت أى ظروف، وليس الحرية هى أن يتحرك الحاكم أو يحرك الأمور بمفرده دون مشاركة من شعبه، وفى هذه الحالة ستكون أولى النتائج هى العبث بمقدرات الشعب، وإعطاء فرصة لحاشية هذا الحاكم أن يحركوه كالدُمى.

■ كيف كانت ردود الأفعال عقب عرض المسرحية، خاصة من الجماهير والنقاد فى فرنسا؟

- إيجابية للغاية حتى لو كانت قاسية فى بعض الأحيان. مثلًا إذا تحدثنا عن ردود أفعال الجماهير الفرنسية سنجد هناك تناقضًا فى الآراء حول ما عُرض فى رؤيتى المسرحية، سواء توضيح الجانب الإباحى الذى أصررت على طرحه بشكل فانتازى ساخر مستفز، علمًا بأننى كنت أعلم مسبقًا أن متذوق المسرح الفرنسى يكره ويمقت الإباحية فى بعض الأحيان، لكنها كانت رؤية خاصة جدًا بالنسبة لى، ساعدنى فى طرحها الفرصة الذهبية التى أتاحها لى جاك لاسال، مدير عام المسرح الكوميدى، وكذلك السياسة الجديدة لهذا المسرح العريق، التى تغيرت على أيدى العديد من المسئولين الأكثر تحررًا عن المسرح فى باريس، وعلى رأسهم المغامر جاك لاسال، الذى ترك لى حرية اختيار جميع رموز وإشكاليات النص الأدبى المطروح فى العمل المكتوب عند ألبير كامو.

■ وماذا عن آراء النقاد فى فرنسا أو خارجها؟

- بالنسبة للنقاد فى فرنسا، رأيت أن هناك تباينًا فى آرائهم، فمثلًا هناك من كان معجبًا بالطرح الفنى الكلى على المسرح، لكونى قدمت مزيجًا من الإخراج المسرحى والتليفزيونى، ونظام «الكولاج». أى أننى وفرت عامل الإبهار فى الرؤية، معتمدًا على «الميكانيزم» العالى فى إمكانات المسرح.

ما طرح كان بمثابة همزة الوصل مع هذه النوعية من النقاد الفرنسيين، فقد شعرت باندماجهم معى. أما على الجانب الأخر فكان هناك الكثيرون من النقاد، خاصة القدامى والمؤرخين، الذين ما زالوا يتذكرون ما فعله «كامو» فى هذا النص منذ ٤٦ عامًا، وهو تسليط الضوء على الأفكار السياسية، وعلاقة الحاكم بالحرية، وعلاقته بحاشيته وأفراد شعبه.

وفى النهاية أقول إن هذه الآراء المتباينة جعلتنى فى قمة السعادة لكونى حركت الراكد فى نفوس الشعب الفرنسى، فيكفينى فخرًا واعتزازًا أن الابنة الكبرى لـ«ألبير كامو» كانت قد شاهدت العرض فى أول ليلة لافتتاحه، وقامت من على مقعدها واحتضنتنى، ثم قالت: «أنت المخرج الوحيد الذى غاص فى أفكار كامو، وخرج بالكثير من الرؤى والجماليات التى تتناسب ومنغصات هذا العصر، وما يعترض أفراده من أفكار غير سوية تعبث بقدراته وحريته، وتجهض كل محاولاته للخلاص من المعاناة». لكن الأشياء التى لم أكن أتوقعها هو انسجام النقاد رغم انقسامهم واختلاف الجماهير فى باريس، فقد كنت أتوقع العكس فى بداية «البروفات»، وهو هجوم النقاد ورضا الجماهير.

■ ماذا عن الإعلام المصرى وموقفه من هذه التجربة المسرحية العالمية؟

- راضٍ عن أى شىء، رغم أنه لم يحدث أى تعليق أو نشر أو حتى تنويه يبين للناس أنى أخرج تجربة مسرحية جديدة للمسرح الفرنسى، فللأسف أنا أعمل فى هذا النص منذ عام تقريبًا، بروفات وعرض، ولم ينشر إلا موضوع خبرى بجريدة «الأهرام». حدث كل هذا فى الوقت الذى كانت وكالات الأنباء العالمية المختلفة تلهث خلفى للتسجيل معى بخصوص هذا العمل، الذى يعتبر أول عمل مسرحى من نوعه يخرجه مخرج سينمائى مصرى.

من هنا، أقول إنه قد تأكدت أن هناك موقفًا إعلاميًا مصريًا يهدف إلى تصفيتى واستنزافى، فى الوقت الذى أعانى فيه الكثير من الآلام النفسية أو الجسدية، ولا أقول هذا من أجل أن يعطف علىّ أحد، مهما علا شأنه، فهذا مرفوض لدىّ، ولكن هل يعلم هؤلاء الإعلاميون أو النقاد فى مصر، أننى كنت مهددًا بالموت بسبب مرضى وتفاقم «حالة القلب» أثناء إجراء بروفات «كاليجولا»، ورغم ذلك تحملت ورفضت نصائح وإرشادات الطبيبين الإنجليزى والفرنسى المعالجين، وأصررت على الانتهاء من «البروفات»، وظللت فى باريس أكثر من ٥ أشهر حتى موعد الافتتاح، ولم يحدث أن وصلتنى مجرد رسالة مواساة.

■ ماذا عن مشروعاتك السينمائية؟

- بدأت بالفعل فى كتابة سيناريو سينمائى، ولم أستقر على اسمه بعد، وأحاول أن أستشير بعض الأطراف الرقابية فى الأفكار المطروحة فى هذا العمل، الذى يتناول الأزمنة العربية بصورتها الحالية.

■ عرض لك التليفزيون مؤخرًا فيلم «بابا أمين».. فهل تعتبر هذه مصالحة من الرقابة التليفزيونية مع أفلامك؟

- أود أن أذكر فى البداية أننى كنت سعيدًا للغاية بعرض هذا الفيلم بالذات، لأنه يحمل الكثير من ذكرياتى الجميلة، لكن مجرد عرض الفيلم لا يعنى أن هناك تغييرًا فى سياسة الرقابة معى، سواء التليفزيونية أو السينمائية، وهذا ليس جحودًا منى، ولكنها الحقيقة المرة. لو كان هناك تصالح حقيقى فلماذا لا يعرضون أفلام «العصفور» أو «عودة الابن الضال» أو «فجر يوم جديد» أو «إسكندرية ليه». عمومًا هذا الموضوع مللت الحديث فيه، ولن تأتى الأحاديث ولا الثرثرة الإعلامية بجديد.

■ ما الذى تحتله الإسكندرية فى حياتك وإبدعاتك؟

- هى النشأة والميلاد والحنين والملاذ، فقد ولدت فيها وعشت عاشقًا، منذ الحبو والطفولة، وشغوفًا وما زلت بشخصية الإسكندر الأكبر، بحثت عنه كأنه ميراثى، كأنه قبر أبى أو قبر الرسول محمد أو المسيح، وكانت دفقتى الأولية فى «إسكندرية ليه»، والذى بدأت به ثلاثية عمرى: «حدوتة مصرية» و«إسكندرية ليه» و«إسكندرية كمان وكمان».

تعلمت من الإسكندرية دروسًا عميقة فى التسامح، إذ أثرت فى فهمى لمفهوم الآخر ومعناه بالنسبة لى كإنسان وفنان، وعاشق للآخر الذى يشاركك آلامك وأحلامك دون أن تدرى. علاقتى بالآخر كانت دافعًا كبيرًا لى لأكتب وأحلم وأبحث عن ذاتى الضائعة بين أمواج البحر فى مدينتى الحبيبة الإسكندرية، وبين رحلاتى إلى نيويورك لدراسة السينما الهوليودية فى «باسادينا».

فى الإسكندرية، تعلمت معنى الوطن وتجسدت أمامى طبيعته من خلال التعايش بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، حيث كنا نسيجًا واحدًا، لذلك، انعكس هذا التعايش فى حواراتى وشخصياتى وأبطالى، وحتى رموزى الفنية، ومن بين هذه الرموز، يبرز مشهد يوسف وهبى «اليهودى» فى «إسكندرية ليه»، حيث تجلت مأساته فى لحظة مغادرته المدينة، كان يصعد على متن الباخرة مودعًا الإسكندرية للمرة الأخيرة، دون أن يعرف وجهته المقبلة، وعندما أطلقت الباخرة صفيرها، وقف متأملًا المجهول، ولسان حاله يقول: «كيف أترك موطنى؟ وإلى أين سأذهب؟».

هنا، فى إسكندريتى أم العالم، وُلد مفهوم التسامح، الذى كان نبراسًا ليس فقط للإسكندرية بل لمصر بأكملها. قبل ثورة يوليو، عرفت جمال عبدالناصر فى شبابى، هتفت له وزغردت لانتصاراته، وأنصفته فى فيلم «فجر يوم جديد»، لكننى أيضًا انتقدته بجرأة فى «العصفور»، حيث كنت شاهدًا على حلمه وحلم كل مصرى رفض فكرة التنحى.

لا أنكر أننى تأثرت بشدة بفكرة القومية العربية والحس الاشتراكى فى الحقبة الناصرية. كان «عبدالناصر» بالنسبة لى أكثر من مجرد زعيم، كان رمزًا حيًا للرفض، رفض الهيمنة والاستعباد، ومثالًا على الموقف الحتمى نحو الحرية والاستقلال. فى جوهره، كان رمزًا ثوريًا للخلاص من سيطرة قوى الاستعمار والهيمنة العالمية، وأيقونة لطموح أمة تحلم بالكرامة والحرية.

■ كيف ترى الفنان محمود المليجى بشىء من التفصيل؟

- لا أنكر أن محمود المليجى كان له تأثير بالغ فى حياتى الفنية، وربما أكثر من أى ممثل آخر شاركنى أفلامى، أفلامى لم تكن مجرد أعمال سينمائية، بل كانت انعكاسًا لنبضات روحى التى تنفستها طوال مسيرتى الحياتية والفكرية والثقافية، وأعلم أن هناك من قد يختلف معى فى وجهة نظرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بالممثلين الذين شاركونى بطولة أفلامى، معبرين عن تكوينى وتركيبتى الخاصة، وتحديدًا فى أفلام سيرتى الذاتية، مثل هشام سليم فى «عودة الابن الضال»، حيث كان رمزًا للمستقبل وأملًا مشرقًا، وكذلك نور الشريف، ومحسن محيى الدين، ومحمود حميدة، الذين أسهموا فى تشكيل ملامح قصتى الفنية والحياتية.

ومع ذلك، كان محمود المليجى وأحمد زكى يحملان مكانة خاصة وعميقة فى نفسى. كل منهما لم يكن مجرد ممثل، بل شريك فى الروح، عبّر عن عمق شخصياتى الفنية وتجاربها بصدق وتأثير لا يُنسى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق