الأربعاء 22/يناير/2025 - 02:45 م 1/22/2025 2:45:06 PM
أدى دونالد ترامب اليمين الدستورية يوم الاثنين الماضي، باعتباره الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، وعاد إلى البيت الأبيض بعد التغلب على أربع لوائح اتهام جنائية ومحاولتي اغتيال، في واحدة من أبرز الانتعاشات السياسية في تاريخ الولايات المتحدة.. تلا ترامب اليمين الدستورية في حفل تنصيب حميم داخل مبنى الكابيتول المُستدير، وهو نفس المبنى الذي اقتحمه حشد من أنصاره قبل أربع سنوات، في محاولة لوقف التصديق على خسارة ترامب في انتخابات 2020.. رفع ترامب، 78 عامًا، يده اليمنى وأدى اليمين الدستورية، باستخدام الكتاب المقدس الذي أعطته له والدته عام 1955، والذي تم تضمينه مع الكتاب المقدس الثاني، الذي استخدمه الرئيس أبراهام لنكولن، في أداء اليمين الدستورية عام.. وقال ترامب في خطاب تنصيب استمر حوالي ثلاثين دقيقة، (العصر الذهبي لأمريكا يبدأ الآن.. من اليوم فصاعدًا، ستزدهر بلادنا وتحظى بالاحترام مرة أخرى في جميع أنحاء العالم.. سنكون موضع حسد من كل أمة، ولن نسمح لأنفسنا بالاستفادة من أي وقت مضى، خلال كل يوم من أيام إدارة ترامب).. وبينما جلس جو بايدن، خلف ترامب، انتقد الرئيس الجديد الحكومة (الراديكالية والفاسدة) التي يرثها!!.
كان خطاب ترامب في حفل التنصيب خطاب تحدٍّ ومواجهة، انتقد خلاله الرئيس جو بايدن، بشكل غير مسبوق في مثل هذه الخطابات.. وقد ركز ترامب على القضايا التي تهم الناخب الأمريكي، مثل الهجرة، خصوصًا من المكسيك، والتضخم، والطاقة، باعتبارها القضايا تهم المواطن الأمريكي العادي.. وبين دورة حكمه الأولى والثانية فرق كبير.. فعندما وصل إلى البيت الأبيض في المرة الأولى، لم يكن يمتلك الخبرة الكافية في مجال الحكم، ولكن اليوم يعرف جيدًا ماذا يريد.. لذلك، وصف ترامب تنصيبه بأنه (يوم التحرير)، وأعلن أن (موجة التغيير تجتاح البلاد)، حيث رسم صورة قاتمة لأمة تغمرها الجريمة من (غزو بلدنا).. وقال إن إدارة بايدن (لا تستطيع إدارة حتى أزمة بسيطة في الداخل)، واتهم سلفه بتوفير (الملاذ والحماية للمجرمين الخطرين) الذين دخلوا البلاد بشكل غير قانوني.. وقال ترامب، إن (كل هذا يتغير بدءًا من اليوم)، مضيفًا أن لديه تفويضًا لعكس (الخيانة الرهيبة) لإدارة بايدن.. وتعتبر بعض الصحف التي تميل للحزب الديمقراطي، أن عودة ترامب إلى السلطة تمثل تغييرًا زلزاليًا عبر الحكومة الفيدرالية.. وترى أنه يدخل مدعيًا تفويضًا انتخابيًا لسن تغييرات شاملة، بعد فوزه بكل ولاية والتصويت الشعبي.. ومن المتوقع أن يكون عهد ترامب الجديد أكثر عدوانية من السنوات الأربع الأولى المضطربة للرئيس في منصبه، عندما تم عزله مرتين، ولكن برأه مجلس الشيوخ.
قام ترامب بحملته الانتخابية، على وعود كبيرة في فوزه الانتخابي على الديمقراطية، كامالا هاريس، لخفض الأسعار على المستهلك، واستئصال (الدولة العميقة) من الحكومة الفيدرالية، وبدء عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين في البلاد بشكل غير قانوني، والتراجع عن سياسات بايدن، بشأن المناخ والطاقة وحقوق المتحولين جنسيًا، والعملات المشفرة ومجموعة من القضايا الأخرى.. وقال ترامب ومستشاروه، إن الرئيس الجديد سيتخذ أكثر من مائة إجراء تنفيذي، وصفها الحلفاء بأنها (صدمة ورعب)، خلال أول يوم له في منصبه، مع التركيز على إغلاق الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وفرض رسوم جمركية جديدة على المكسيك وكندا والصين.
حدد ترامب بعض الأوامر في خطابه، بما في ذلك إعلان حالة طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية، وتنفيذ أجندة (الطفل والحفر)، لزيادة إنتاج النفط، وإعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أمريكا، وجعل السياسة الرسمية للحكومة الفيدرالية، هي الاعتراف بجنسين فقط: ذكر وأنثى.. وقال إنه سيتخذ إجراءات لتصنيف عصابات المخدرات كمنظمات إرهابية أجنبية.. ومن خلال التذرع بقانون الأعداء الأجانب لعام 1798، سيوجه الحكومة إلى استخدام (السلطة الكاملة والهائلة لإنفاذ القانون الفيدرالي وقانون الولايات)، للقضاء على وجود جميع العصابات الأجنبية والشبكات الإجرامية، (بهذه الإجراءات، سنبدأ في الاستعادة الكاملة لأمريكا وثورة الفطرة السليمة.. الأمر كله يتعلق بالفطرة السليمة).. ومن المتوقع، أن تظهر السنوات الأربع المقبلة لترامب جمهوريًا، أكثر شعبوية من أي وقت مضى، وهو حزب ابتعد عن الأسواق الحرة نحو الحمائية والابتعاد عن التحالفات الدولية، نحو عقلية (أمريكا أولًا).. وسيتم التعبير عن هذه الأفكار التي تم تقديمها في فترة ولاية ترامب الأولى، مع فرض رسوم جمركية على الصين، واتفاقيات تجارية مُعاد التفاوض عليها، والعداء تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل كامل.
أكد ترامب إن الولايات المتحدة (تستعيد) قناة بنما، التي قال إنها (مُنِحَت بحماقة) لبنما، في صفقة دبرها الرئيس جيمي كارتر.. أيضًا، ستدخل الولايات المتحدة حقبة جديدة من استكشاف الفضاء على كوكب المريخ تحت قيادته، وتعهد (سنتابع مصيرنا الواضح في النجوم، وإطلاق رواد فضاء أمريكيين لزرع النجوم والمشارب على كوكب المريخ).
تم نقل حفل تنصيب ترامب إلى داخل الكابيتول، بسبب درجات الحرارة الباردة في واشنطن، ليكون أول حفل أداء لليمين في الأماكن المغلقة منذ تنصيب رونالد ريجان الثاني عام 1985، والذي أقيم في مبنى الكابيتول المستدير.. بينما احتشد الآلاف من أنصار ترامب في ساحة مبنى الكابيتول لمشاهدة حفل تنصيب ترامب.. وربما كان وراء ذلك، مخاوف اغتيال ترامب في يوليو، عندما أصابت رصاصة مسلح أذنه، بينما كان يقف على خشبة المسرح في حقل بولاية بنسلفانيا، مما أدى إلى تلطيخ وجهه بالدماء، واتهم رجل ثانٍ بمحاولة قتله، بينما كان يلعب الجولف في ناديه الريفي في ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا.. لذلك قال، (لن يتم تسليح القوة الهائلة للدولة مرة أخرى لاضطهاد المعارضين السياسيين.. وهو أمر أعرف شيئًا عنه.. لن نسمح بحدوث ذلك.. لن يحدث ذلك مرة أخرى تحت قيادتي).
ومن المرجح أن يجد ترامب عقبات أقل داخل البيت الأبيض، مما كان عليه خلال إدارته الأولى، عندما كان غالبًا ما يشتبك مع حكومته ومساعديه الآخرين.. ينظر إلى اختياراته للإدارة القادمة على نطاق واسع، على أنها مؤمنون حقيقيون مخلصون وموثوق بهم.. ويخشى الديمقراطيون من رئاسة تركز على الانتقام.. قبل ساعات من مغادرته البيت الأبيض، أصدر بايدن عفوًا مسبقًا غير مسبوق، للحماية من الملاحقة الجنائية لخصوم ترامب، بما في ذلك الدكتور أنتوني فاوتشي، والنائبة السابقة ليز تشيني، ومشرعين آخرين خدموا في لجنة مجلس النواب، التي حققت في هجوم السادس من يناير على مبنى الكابيتول.. كما أصدر بايدن عفوًا عن خمسة من أفراد عائلته، في أحد إجراءاته الأخيرة كرئيس.. وإذا كان ترامب قد قال إن (النجاح) سيكون انتقامه، لكنه أظهر في التعليقات الأخيرة، أنه لا يزال يفكر في الملاحقات القضائية الأربع، التي أعقبت مغادرته منصبه عام 2021، (إذا عملنا معًا، فلا يوجد شيء لا يمكننا القيام به ولا حلم لا يمكننا تحقيقه.. اعتقد الكثير من الناس أنه من المستحيل بالنسبة لي، أن أنظم مثل هذه العودة السياسية التاريخية.. لكن كما ترون اليوم، ها أنا ذا.. لقد تحدث الشعب الأمريكي).. لذلك، وعده بأن أمريكا ستحظى بالاحترام مرة أخرى، والإعجاب بها مرة أخرى، (لن يتم قهرنا.. لن نخاف، ولن نتحطم، ولن نفشل.. واعتبارًا من هذا اليوم فصاعدًا، ستكون الولايات المتحدة الأمريكية دولة حرة وذات سيادة ومستقلة.. سنقف بشجاعة، سنعيش بفخر.. سنحلم بجرأة، ولن يقف شيء في طريقنا، لأننا أمريكيون).
●●●
وإذا كان ترامب قد ركز في خطاب تنصيبه على قضايا الداخل الأمريكي، ومر مرور الكرام على ما يتعلق بالشرق الأوسط، وخصوصًا اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن عودته إلى سدة الحكم، تثير في العموم، هواجس مراقبين لشئون الشرق الأوسط والعالم العربي، مع مخاوف كبيرة من سياسة أكثر تصلبًا وشدة، قد تزيد من حدة التوترات المتفاقمة أصلًا في منطقة ملتهبة.. فمن الحرب في غزة، إلى العلاقة مع إيران، ونزاعات الصحراء المغربية، يتساءل كثيرون عما يُحضّره الرئيس الأمريكي الجديد من خطط حيال هذه الملفات الشائكة؟، إذ تنبئ عودة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة لولاية ثانية، بحدوث تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام، وخصوصًا في الشرق الأوسط والعالم العربي.. فلطالما كانت هذه المنطقة وإسرائيل تحديدًا، محورًا أساسيًا بالنسبة لكافة الرؤساء والساسة الأمريكيين.
راقب ترامب، الذي يصف نفسه بأنه (أفضل صديق) لإسرائيل، حتى قبل عودته إلى البيت الأبيض، الوضع في الشرق الأوسط، وخصوصًا الحرب في غزة، والتوتر غير المسبوق بين إيران وإسرائيل، عن كثب.. وكان صرّح خلال خطاب له أمام المجلس الإسرائيلي ـ الأمريكي بواشنطن في التاسع عشر من سبتمبر الماضي، (سنجعل إسرائيل عظيمة مرة أخرى)، مؤكدا أنه مع تصويت اليهود الأمريكيين، سيكون (المدافع عنهم) و(حاميهم) وأنه (أفضل صديق لليهود الأمريكيين في البيت الأبيض).. ويخطط ترامب منذ أعوام، لإنهاء الصراع في منطقة الشرق الأوسط، حيث سبق وأن عرض خطته المثيرة للجدل (صفقة القرن)، التي روّج لها صهره ومستشاره جاريد كوشنر في 2018، خلال جولته بالمنطقة.. ولاحقًا، كشف كوشنر بشكل أكثر جلاءً، عن تفاصيل هذه الخطة، حيث قال في الثاني من مايو 2019، إنها ستُكرس القدس عاصمة لإسرائيل، دون الإشارة إلى حل الدولتين، رغم أن الأخير كان على مدى سنوات محور الدبلوماسية الدولية، الرامية لإنهاء النزاع العربي ـ الإسرائيلي.
وحيال الحرب في غزة، لم يتردد ترامب مؤخرًا عن إطلاق تحذير من أن (جحيمًا سوف يندلع في الشرق الأوسط)، إذا لم تطلق حركة حماس سراح الرهائن الإسرائيليين لديها قبل تنصيبه.. وسُرعان ما نسب لنفسه الفضل، عندما تم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل في القطاع الفلسطيني المدمر، وإطلاق سراح الرهائن.. وعشية حفل التنصيب، قال مايك والتز، مستشار الأمن القومي الأمريكي في إدارة ترامب الجديدة، بصورة قطعية، إن حركة حماس لن تعود لحُكم قطاع غزة مرة أخرى.. أما بخصوص من سيتولى السيطرة على قطاع غزة لاحقًا، قال والتز، (ربما تكون قوة أمنية مدعومة من العرب، وربما يكون هناك خليط فلسطيني.. أنا لا أريد أن أستبق تخطيطاتنا.. لكن من الواضح أن الخطوط العريضة الأوسع موجودة).. إلا أنه أشار إلى أن (إسرائيل ستفعل ما يتعين عليها فعله لضمان ذلك.. والولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، ستدعمها، في أن حماس لن تحكم غزة مرة أخرى)، معترقًا بأن (هذا لا يعني أنه لن تكون هناك جيوب مقاومة من جانب حماس).. هذا لا يعني أنه لن يكون هناك قتال جارٍ، لكن الطريق سيكون صعبًا في المستقبل).
لكن التسريبات الأولية حول خطط إدارة ترامب تجاه الحرب في غزة، تدل على (أنه سيمضي باتجاه وقف هذه الحرب، وهو ما تمت ترجمته باتفاق الهدنة بين إسرائيل وحماس).. ومن المرجح أن (ترامب وفريقه المؤيد لإسرائيل، لا يتجه نحو إقرار خطة شاملة لحل القضية الفلسطينية، سوى بحدود صفقة القرن، التي طرحها في رئاسته السابقة، وهي السلام الاقتصادي، ومقاربة أعلى من حكم ذاتي وأقل من دولة).. هذه المقاربة، ستجد طريقها رغم الاعتراضات عليها من قبل أوساط إسرائيلية وأخرى فلسطينية، لكنها ربما تكون مقبولة، لا سيما وأنها ستمهد الطريق أمام تطبيع موعود بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
أما بالنسبة إلى إيران، التي رأت اتفاقها النووي الموقع في 2015 مع القوى الكبرى ينهار، بسبب قرار ترامب في الثامن من مايو 2018 الانسحاب خلال عهدته الرئاسية الأولى بشكل أحادي، مع إعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها، فهي لا تزال بالنسبة إلى ترامب بمثابة العدو اللدود، الذي ينبغي تحجيم قوته وقص أذرعه في المنطقة، أقله لضمان أمن إسرائيل.. وفي الواقع، أعلن مستشارو ترامب بشكل صريح، عن أن إدارته ستعود إلى اتباع سياسة (أقصى درجات الضغط)، التي انتهجها الرئيس خلال ولايته الأولى.. إذ سعت تلك السياسة إلى استخدام عقوبات قوية لخنق الاقتصاد الإيراني، وإجبار طهران على التفاوض على اتفاقية تحد من برامجها المتعلقة بالأسلحة النووية والباليستية.. ولم تخفف إدارة بايدن بشكل ملموس العقوبات التي فرضها ترامب، ولكن هناك جدل حول مدى فاعلية تطبيقها.
إن رؤية ترامب لمسألة التهديد الإيراني، تقوم على الأرجح على عدة سيناريوهات، من أبرزها، سيناريو الضغط والتصعيد عبر عقوبات اقتصادية واسعة، تشل الاقتصاد الإيراني المنهك أصلًا، وربما تصل لمستوى ضربات عسكرية لإيران، والمزيد من الدعم لإسرائيل للقضاء على وكلاء إيران في العراق ولبنان واليمن.. السيناريو الثاني، هو التوصل لصفقة شاملة مع إيران.. ويبدو أن الفريق الإصلاحي بقيادة الرئيس مسعود بزشكيان، جاهز لإنفاذها لإنقاذ بلاده، بلا ميليشيات ولا حرس ثوري ولا وحدة للساحات، أو وحدة الجبهات ومحور المقاومة.. لكن هذا السيناريو سيبقى رهنًا بمخرجات الصراع بين التيارين الإصلاحي والمتشدد، داخل الجمهورية الإسلامية.
رغم ذلك، أبدت طهران أملًا في تبني الإدارة الأمريكية تحت قيادة ترامب، نهجًا جديدًا في العلاقات المشتركة بين البلدين.. حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، إن بلاده تأمل في أن تتبنى الحكومة الأمريكية الجديدة نهجًا (واقعيًا) تجاه طهران، (نأمل أن تكون توجهات وسياسات الحكومة الأمريكية المقبلة واقعية، ومبنية على احترام مصالح دول المنطقة، بما في ذلك الأمة الإيرانية).
وفي نزاع يثير توترات متواصلة في منطقة المغرب العربي، لم يتوان الرئيس الأمريكي الجديد عن الخوض في ملف الصحراء المغربية، التي تشهد نزاعًا منذ عقود بين المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر.. ونشر ترامب في العاشر من ديسمبر 2020، تغريدة على منصة X، قال فيها، إن المغرب تعهّد بتطبيع علاقاته مع إسرائيل، في إطار اتفاق وافق الرئيس الأمريكي بمقتضاه على الاعتراف بـ (سيادة) المغرب على الصحراء الغربية.. وكتب ترامب في تغريدته حينها، (تقدم تاريخي آخر اليوم!.. وافقت إسرائيل والمملكة المغربية على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، في اختراق هائل في سبيل السلام في الشرق الأوسط!).. ومن المهم هنا، الإشارة، إلى أنه خلال فترة حكم جو بايدن، لم تحدث اختراقات تُذكر على صعيد حلحلة هذه القضية، أو تبدلًا في موقف الرئيس الديمقراطي من الخطوة التي أقدم عليها غريمه الجمهوري السابق في البيت الأبيض.. وكان مجلس الأمن الدولي قد جدد، في نهاية أكتوبر 2023 دعوة أطراف النزاع إلى (استئناف المفاوضات، للتوصل إلى حل دائم ومقبول من الطرفين).. وفي الخامس والعشرين من سبتمبر 2024، صادق مجلس الأمن على قرار يدعو إلى إيجاد حل سياسي (واقعي ومقبول) لنزاع الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو، في خطوة شملت تمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة لمدة عام إضافي.. لكن، ما الجديد الذي قد تحمله عودة ترامب مجددًا إلى سدة الحكم بخصوص هذه القضية؟.
يرى المحلل السياسي الأردني، د. عمر الرداد، أن من المرجح أن يجدد ترامب خلال ولايته الثانية (اعترافه بالصحراء الغربية، كجزء من المملكة المغربية.. لا سيما وأنه سبق واعترف بذلك في رئاسته الأولى).. كما قال، إن قضية الصحراء الغربية قد شهدت (تحولات خلال إدارة بايدن، أبرزها زيادة مساحات الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء.. يضاف إلى ذلك أن البوليساريو وداعمتها الجزائر، تُصنف من قبل إدارة ترامب، بأنها جزء من المحور الذي تقوده إيران في شمال إفريقيا).. إلا أن فريق ترامب سيكون له دور في تحديد مواقف أمريكا تجاه قضايا الشرق الأوسط، وهذا الفريق مؤيد بالكامل لإسرائيل، التي تتخذ أصلًا موقفًا معاديًا ضد الجزائر.
●●●
خطابات تنصيب الرئيس الأمريكي ليست خطابات سياسية، بل هي تصريحات عامة حول الوجهة التي يريد الرئيس الجديد أن يقود البلاد إليها ـ كما يقول هيرب كينون، في جيروزاليم بوست ـ ولم يكن خطاب تنصيب ترمب الثاني استثناءً.. وعلى هذا، فلا ينبغي للإسرائيليين أن يشعروا بالقلق إزاء عدم استحقاق بلادهم للذكر، في الخطاب الذي استغرق ثلاثين دقيقة.. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لروسيا أو أوكرانيا أو أي دولة أوروبية.. وكانت الدول الوحيدة التي تم ذكرها هي الصين (مرتين)، والمكسيك (مرة واحدة)، وبنما، التي تصدرت القائمة بستة مرات، وكلها تتعلق بقناة بنما، التي يريد الرئيس استعادتها.. ولكن عدم وجود أي ذكر لإسرائيل، لا يعني عدم وجود تلميحات سياسية في ذلك الخطاب، أو في تصريحات أخرى أدلى بها في يوم تنصيبه المزدحم للغاية، وكذلك في الأوامر التنفيذية التي وقعها.
في ديسمبر الماضي، حذر ترامب من ضرورة إطلاق سراح الرهائن قبل تنصيبه وإلا (سيتعرض المسئولون عن هذا الهجوم لضربة أشد من تلك التي تعرض لها أي شخص في التاريخ الطويل والحافل للولايات المتحدة الأمريكية)، وأشار بإيجاز إلى إطلاق سراح ثلاثة رهائن يوم الأحد.. وكانت صياغته جديرة بالملاحظة، وإن كان ينبغي للمرء أن يتجنب الإفراط في التفسير، (يسعدني أن أقول إنه اعتبارًا من أمس، أي قبل يوم واحد من تولي منصبي، بدأ الرهائن في الشرق الأوسط في العودة إلى ديارهم وعائلاتهم).. (الرهائن في الشرق الأوسط؟).. لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها ونقول (الرهائن الإسرائيليون؟).. وعلى النقيض من الخطب غير المكتوبة والتعليقات الأخرى التي ألقاها يوم الاثنين، كان خطاب التنصيب مصممًا بعناية، حيث كانت كل كلمة مدروسة بعناية.. ويبدو أن استخدام مصطلح (الرهائن في الشرق الأوسط) يتماشى مع الطموح الذي حدده في الجملة السابقة لهذا السطر، وهو أنه يريد أن يكون (صانع سلام ومُوَّحِد).. وعلى هذا فإن قول (الرهائن في الشرق الأوسط)، يضع هذا الإفراج في إطار حل إقليمي أوسع نطاقًا وليس قضية إسرائيلية فحسب.
وفي وقت لاحق، وفي فعالية أقيمت بعد تنصيبه في ملعب (كابيتال وان)، رحب الرئيس بعائلات الرهائن ـ بما في ذلك الرهينة المحررة نوح أرجاماني ـ ودعا إلى إطلاق سراح جميع الأسرى.. وقال: (لقد فزنا، ولكن العمل يبدأ الآن.. ويتعين علينا إعادتهم إلى ديارهم).. وقد جاءت إشارة أخرى إلى سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في خطاب تنصيب ترامب، عندما أعلن، (سوف نقيس نجاحنا، ليس فقط بالمعارك التي نفوز بها، بل وأيضًا بالحروب التي ننهيها.. وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا نشارك فيها أبدًا).. وهذه إشارة إلى أنه يتطلع إلى تقليص التدخل في الخارج، وليس زيادته، وينبغي أن يُبدد أي أوهام قد تكون لدى البعض في تل أبيب، بأن الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب، قد تتخذ إجراءً عسكريًا مباشرًا في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، في إيران.
لقد جاء مؤشر آخر على هذا، عندما سُئل الرئيس عما إذا كان وقف إطلاق النار في غزة سوف يصمد خلال كل مراحله، فأجاب بصراحة، (إنها ليست حربنا.. إنها حربهم ـ أي إسرائيل ـ وأنا لست واثقًا من ذلك.. ولكنني أعتقد أنهم ـ حماس ـ ضعفاء للغاية على الجانب الآخر).. ومن الجدير بالذكر أنه أكد على أن هذه هي حربهم.. وقال عندما سُئل عن من سيحكم غزة في المستقبل:، (من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك أشخاص مثل هؤلاء الذين كانوا هناك.. وبالمناسبة، معظمهم ماتوا، أليس كذلك؟).. وتابع (لكنهم لم يديروا الأمور بشكل جيد.. لقد أداروها بوحشية وسوء.. لا يمكن أن يكون هناك هذا).. وقال أن الولايات المتحدة قد تساهم في إعادة إعمار غزة، لكنه لم يقدم أي وعود، وقال، إن القطاع الساحلي من غزة، يجب إعادة بنائه بطريقة مختلفة!!.. (نظرت إلى صورة غزة.. غزة أشبه بموقع هدم هائل.. هذا المكان يجب إعادة بنائه بطريقة مختلفة حقًا.. إنه موقع رائع. على البحر، والطقس هو الأفضل.. كما تعلمون، كل شيء جيد.. يبدو الأمر وكأن بعض الأشياء الجميلة يمكن القيام بها فيه).
ورغم وجود تلميحات إلى سياسة مستقبلية في بعض خطاباته، فإن بعض الأوامر التنفيذية العديدة التي وقعها في اليوم الأول من رئاسته، أرسلت إشارات ملموسة إلى إسرائيل.. كان الأول، هو الأمر الذي ألغى عقوبات الرئيس السابق، جو بايدن، على أكثر من اثني عشر مستوطنًا في الضفة الغربية، الذين اتهمتهم الإدارة بالعنف ضد الفلسطينيين، وإلغاء العقوبات المفروضة على ستة عشر منظمة يمينية، مثل ذراع تطوير المستوطنات (أمانا) و(تزاف 9)، وهي مجموعة نظمت احتجاجات لمنع قوافل المساعدات إلى غزة خلال الحرب الحالية.. وقد أدت هذه العقوبات إلى تجميد أصول هذه المنظمات في أمريكا، ومنع دخولها إلى الولايات المتحدة، ودفعت البنوك الإسرائيلية، في بعض الحالات، إلى إغلاق الحسابات التابعة لهذه المنظمات، حتى لا تتعرض للعقوبات الأمريكية.. وكان الأمر الأكثر أهمية من تأثيرها الفوري، هو الرسالة التي مفادها أن واشنطن لن تسعى إلى نزع الشرعية عن المستوطنات، أو تتخذ خطوات ملموسة ضدها، وهو المسار الذي تبنته إدارة بايدن بهذه العقوبات.
وكانت الخطوة الحاسمة الأخرى، هي إعادة فرض العقوبات على مسئولي المحكمة الجنائية الدولية، الذين يستهدفون الولايات المتحدة أو حلفائها.. وفي العام الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف جالانت.. وألغى بايدن العقوبات المفروضة على المحكمة، إلا أن مجلس النواب صوت على الموافقة على فرض عقوبات على المحكمة، ردًا على مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت، لكن ليس من الواضح، ما إذا كان الإجراء سيحصل على الأصوات الستين اللازمة في مجلس الشيوخ للموافقة عليه.. ومع ذلك، فإن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، يشير إلى أن إدارته ستواجه المحكمة الجنائية الدولية بقوة بشأن هذه القضية.. كما أعطى ترامب الضوء الأخضر لإجراءات الترحيل ضد الأجانب في الولايات المتحدة الذين يدعمون الإرهاب، مما يشير إلى موقف أكثر صرامة تجاه الاحتجاجات المعادية لإسرائيل والسامية بشدة، في الحرم الجامعي وفي الشوارع.. وينص هذا الأمر التنفيذي على أن (سياسة الولايات المتحدة هي حماية مواطنيها من الأجانب، الذين يعتزمون ارتكاب هجمات إرهابية، أو تهديد الأمن القومي، أو تبني أيديولوجية كراهية، أو استغلال قوانين الهجرة لأغراض خبيثة).
وأخيرًا، كان الموقف الأكثر عدوانية تجاه المنظمات الدولية واضحًا، ليس فقط في الأمر التنفيذي الذي يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية (غير المرتبطة بإسرائيل)، ولكن أيضًا في قرار التوقف لمدة تسعين يومًا، ومراجعة جميع المساعدات الإنمائية الأمريكية الخارجية، بما في ذلك الأونروا.. والمساعدات الأمريكية لوكالة المعونة معلقة حاليًا حتى مارس القادم.. هذا الأمر التنفيذي، الذي أُطلق عليه (إعادة تقييم وتعديل المساعدات الخارجية للولايات المتحدة)، ينص على أن (صناعة المساعدات الخارجية والبيروقراطية الأمريكية لا تتماشى مع المصالح الأمريكية، وهي في كثير من الحالات تتعارض مع القيم الأمريكية. وهي تعمل على زعزعة استقرار السلام العالمي، من خلال الترويج لأفكار في الدول الأجنبية، تتعارض بشكل مباشر مع العلاقات المتناغمة والمستقرة بين الدول).. وبناء على هذا المقياس، فإن الأونروا أصبحت في مرمى النيران.
وبشكل عام، تشير الأوامر التنفيذية التي وقعها ترامب يوم الاثنين، إلى أن السياسات الأمريكية في عهد الرئيس الجديد، ستكون أكثر انسجامًا مع مصالح إسرائيل في قضايا مثل المستوطنات، والأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، مقارنة بإدارة بايدن.. لكن واقعيته الصريحة في قوله، (إنها ليست حربنا)، ينبغي أن تُذكِّر تل أبيب، بأنه على الرغم من وجود صديق لها في البيت الأبيض، ورغم تداخل المصالح الأمريكية ـ الإسرائيلية في كثير من الأحيان، فإنها ليست متطابقة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
0 تعليق