الجهود المهدرة

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في عالم المنظمات والمؤسسات تتكرر أنماط معينة من الإشكاليات تُعرف بـ(Pattern of Issues)، التي تنعكس في القوالب التنظيمية وأساليب أداء الأعمال. وغالبا ما يتمكن القادة ذوو الخبرة والفهم العميق من التنبؤ بالأسباب الجذرية للمشكلات بمجرد ملاحظتها، لأن هذا النمط المتكرر هو عابر للمنظمات وحالة تجوب وديان وهضاب الشركات والمؤسسات. هذا الفهم يتشكل مع مرور الوقت من خلال الخبرات المتراكمة (Crystallization)، مما يمنح القادة رؤية واضحة تمكنهم من تحليل الوضع الراهن، وفهم جذور المشكلات، ووضع حلول مستدامة لها. وعلى الرغم من تعدد المظاهر وتشعب الأسباب، إلا أن الجذور غالبا ما تكون واحدة ويمكن معالجتها بفعالية إذا توفرت الرؤية والإدارة السليمة.

من مظاهر الجهود المهدرة، والذي أسميه الإهمال الاستراتيجي، ويقع في أربعة محاور مترابطة:

المحور الأول: وهو عدم وجود رؤية استراتيجية بعيدة المدى، والتي تمثل الخط المستقيم الذي يصل نقطة الابتداء بنقطة الانتهاء المتجددة. وهذا المحور أعتقد أنه بمثابة السياط الحارق مع مرور الزمن في عالم الأعمال والموارد البشرية، إذا لم يتم التعامل به بشكل فاحص واعتناء تام، سواء من خلال وجود هذه الرؤية الاستراتيجية أو المراجعة المستمرة لها. ببساطة، ضع في مخيلتك أنك تقود سيارة دون معرفة الوجهة (الرؤية الاستراتيجية) أو دون الاهتمام لإرشادات الطريق (المراجعات المستمرة) التي تُكرّس عمليات التذكير لك عن الوجهة النهائية. في الأغلب المنظمات تدخل في الجدار - بلهجتنا الدارجة - إذا فقدت أحد هذين الجناحين.

المحور الثاني: المرتبط بشكل وثيق مع المحور الأول، وهو المشهد المتكرر الذي أعتقد أنه في كثير من الأحيان - وليس بشكل دائم - عندما تقوم المنظمة بالتعاقد مثلا مع شركة استشارية وتجتهد في تقديم حلول استراتيجية، ولكن في الأغلب بعد فترة من الزمن تجد أن تلك الحلول زادت من التعقيد والابتعاد عن النجاعة في الفاعلية لسير المنظمة نحو أهدافها. وفي أغلب الأحيان، يكون رفع الواقع من قبل هذه الجهة الاستشارية يشوبه الضبابية (Current Situation)، فضلا عن التعلق بالنتائج النهائية دون المعرفة الدقيقة لكيفية الوصول بشكل آمن وفاعل لتلك النتيجة النهائية. فيحصل شيء من البعثرة في الطريق، مما قد يجعل كثيرا من التنهيدات تحصل بأثر رجعي عند القادة والعاملين بسبب الجهود المهدرة التي طاردت السراب الذي يحسبه الظمآن ماء.

المحور الثالث: وهو عمليات التفسير والإسقاط والهندمة (Customization) لهذه الرؤية على المنظمة بما يتناسب مع المقومات والموارد الموجودة فيها. طبعا إذا تجاوزنا أن الرؤية الاستراتيجية موجودة ومراجعاتها مستمرة وتسير بشكل يتناسب مع أهداف المنظمة. كمثال، تجد مثلا مفهوم الفاعلية التنظيمية (Organizational Effectiveness) موضوعا تمت دراسته من خلال العديد من النظريات والنماذج، التي تسعى لتحديد معايير وأساليب قياس مدى تحقيق المنظمة لأهدافها. كيم كاميرون في كتابه عن فاعلية المنظمات تحدث بإسهاب ممتع عن نماذج العمل من حيث الفاعلية التنظيمية. وكيف يمكن أن استخدام نموذج ما لا يتناسب مثلا مع واقع المنظمة ستكون المحصلة أيضا جهودا مهدرة. المهم هنا، لا ينبغي أن يُتعامل في هذا الشأن بتلك القاعدة (One size fits all) عند عمليات الإسقاط. فما يصلح لمنظمة قد لا يصلح لأخرى، ويعتمد ذلك على عدة عوامل من حيث حجم المنظمة وطبيعة عملها وثقافة المنظمة والمرحلة العمرية للمنظمة والتكنولوجيا المستخدمة والموارد المتاحة وغيرها. فعسف المنظمة تجاه نموذج معين دون استقراء صحيح لهذه العوامل قد يذهب بها نحو الطريق المنحدرة ولو بعد حين.

المحور الرابع والأخير: هو عدم وضوح الأولويات في هذه التركيبة الاستراتيجية، ومن مظاهرها تساوي الأهميات في الأعمال التي تُنفذ على جميع المستويات، ما ارتفع منها وما انخفض، حيث تتداخل الأنشطة الكبيرة والصغيرة دون تمييز. قد تجد نفسك غارقا في تفاصيل صغيرة، بينما يتراجع الاهتمام بالمستهدفات الضخمة الواقعية التي تغذي تلك الرؤية استراتيجية بشكل مباشر. على سبيل المثال، يتم التعامل مع جميع الاعمال بالقدر نفسه من الوزن والأهمية ولا بد من الالتزام بها، وهذا يجعل من البوصلة متأرجحة في اتجاهها الشمالي، والذي بكل تأكيد سيجعل من السير ضعيفا والتأثير الإيجابي في أقل صورة له نحو المستهدفات الاستراتيجية، وهنا تحدث الفوضى غير المرئية كشكل من أشكال الجهود المهدرة، مما يعيق التقدم نحو الأهداف الكبرى ويقلل من فعالية الأداء. والله أعلم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق