بدأ جيش المشركين، الذى ضم ١٠ آلاف مقاتل من قبائل مكة، على رأسها قريش، فى التحرك نحو المدينة- سنة ٨ هجرية- وفى نيته خوض معركة فاصلة ضد النبى «صلى الله عليه وسلم» والمؤمنين، معركة نسق فيها مع يهود المدينة، بحيث يُطبق المشركون على المسلمين من الأمام ويطعنهم اليهود من الخلف. وصل خبر تحرك التحالف العربى إلى النبى «صلى الله عليه وسلم»، فجمع أصحابه يستشيرهم، فأشار عليه سلمان الفارسى- كما تعلم- بحفر خندق يمنع المشركين من الانقضاض على المدينة. وقد كان «صلى الله عليه وسلم» حريصًا على تكوين فريقه التشاورى من خبرات مختلفة، فضم عربًا قرشيين، مثل أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعرب المدينة، مثل سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وضم حبشيًا هو بلال بن رباح، وروميًا هو صهيب بن سنان، وفارسيًا هو سلمان. مثّل هؤلاء الأعضاء مخزون خبرات متنوعة استفاد منها النبى «صلى الله عليه وسلم» فى إدارة الكثير من المواقف، وقد نقل سلمان الكثير من الخبرات العسكرية الفارسية إلى صفوف المسلمين، مثل فكرة «الخندق» وفكرة الدبابات الخشبية التى يقاتل الرجال من خلفها، وفكرة المنجنيق، وغيرها. هذه الأفكار والأدوات القتالية لم يكن يعرفها العرب، والدليل على ذلك أن المكيين حين فوجئوا بالخندق المحيط بالمدينة بعد وصولهم إليها، قالوا إن الخندق ليس من بنات أفكار العرب، فقال أحدهم: «إن مع محمد مؤمنًا من آل فارس، مؤكد أنه من أشار عليه بذلك».
نشط المسلمون فى حفر الخندق، ووزعهم النبى فى فرق، تحفر كل فرقة منها فى اتجاه، وآوى الأطفال والنساء إلى الحصون العالية، واستخلف على المدينة عبدالله بن أم مكتوم، وفوجئ المشركون بالمشهد بمجرد وصولهم إلى تخوم المدينة، وفى محاولة لتفكيك هذا الموقف بعث أبوسفيان بن حرب إلى حيى بن أخطب يطلب منه الإيعاز إلى بنى قريظة بنقض عهدهم مع الرسول، رفض بنو قريظة ذلك فى البداية، لكن أبا سفيان ظل يحرضهم على ذلك حتى وافقوا. وحينما وصل الخبر إلى النبى «صلى الله عليه وسلم» أخذ يردد: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، واضطرب المسلمون وخافوا على أطفالهم ونسائهم، الذين باتوا فى قبضة اليهود داخل المدينة، وبدأ المنافقون يتحركون وسط المسلمين، ويدسون الأراجيف والشائعات، فتعقد الموقف أكثر وأكثر، وفى مواجهة ذلك قرر النبى أن يُرسل من حين إلى آخر فرقًا من المقاتلين إلى داخل المدينة، يكبّرون ويهللون؛ حتى يعلم اليهود أنهم ليسوا بعيدين عن أيدى المسلمين، وأن أى خيانة من جانبهم ستواجه بمنتهى الشدة.
على الضفة الأخرى وقف المشركون متحيرين أمام الخندق، وبدأوا يفكرون فى كيفية اقتحامه، أخذوا يلفون ويدورون حوله للبحث عن أى ثغرة يمكن النفاذ منها، وجدوا موضعًا ضيقًا فعبرت مجموعات منهم تصدى لها المسلمون، وثبتوا فى مواجهتهم، وظلوا يقاتلون حتى شغلهم القتال عن الصلاة، لأنهم كانوا يعلمون أن انهيار مقاومتهم يعنى دخول المشركين إليهم وعبور الخندق وتطويقهم من الخلف، ظل المسلمون يقاتلون حتى تمكنوا من صد الهجوم المباغت، وردوا المشركين على أعقابهم. لم تتوقف غارات المشركين، بل تعددت وتنوعت، وظل المسلمون يقاومون، لكن التعب بدأ فى التسلل إليهم، وفكر النبى من أجل التخفيف عنهم فى التفاوض مع غطفان على الخروج من تحالف المشركين، مقابل ثلث ثمار المدينة، لكن الأنصار رفضوا ذلك.
ظل المشهد على تلك الحال حتى شاء الله أن يُسلم نعيم بن مسعود الأشجعى، فأشار على رسول الله بحيلة جديدة يستطيع بها تفكيك تحالف الأحزاب الذى يقف فى مواجهة المسلمين، يقول «ابن سعد» فى طبقاته: «فمشى نعيم بين قريش وقريظة وغطفان، وأبلغ هؤلاء عن هؤلاء كلامًا، وهؤلاء عن هؤلاء كلامًا، يرى كل حزب منهم أنه ينصح له فقبلوا قوله وخذله عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، واستوحش كل حزب من صاحبه وطلبت قريظة من قريش الرهن حتى يخرجوا فيقاتلوا معهم، فأبت ذلك قريش واتهموهم، واعتلت قريظة عليهم بالسبت وقالوا لا نقاتل فيه؛ لأن قومًا منا عدوا فى السبت فمسخوا قردة وخنازير، فقال أبوسفيان بن حرب: «ألا أرانى أستعين بإخوة القردة والخنازير». كان نعيم بن مسعود موضع ثقة كل الأطراف، سواء من أفراد قبيلته «غطفان»، أو من جانب أبى سفيان، وقد كان الأخير يستشيره باستمرار، وكان يتمتع بوضعية معتبرة لدى اليهود، وقد كان حكيمًا حين نصحه النبى بكتمان إسلامه، لأنه كان يدخره لدور شديد الأهمية فى تلك المعركة المزلزلة، التى واجه فيها المسلمون الأحزاب.
كانت تلك حيلة البشر، أما تصاريف القدر فقد تبلورت فى ريح عاتية هبت على معسكر المشركين، فعصفت بهم، ما اضطر أبا سفيان إلى أن يقول لقومه وهم يقفون عاجزين أمام الخندق: «يا معشر قريش إنكم لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، ولقد لقينا من الريح ما ترون فارتحلوا فإننى مرتحل»، وقد تبعه قومه فى ذلك، وكان النبى قد أرسل من المسلمين مَن يستطلع أمر المشركين بعد تلك الريح، ورجع فريق الاستطلاع بخبر الشروع فى الرحيل، وفك الحصار عن المدينة، فأذن النبى «صلى الله عليه وسلم» للمسلمين فى الانصراف إلى منازلهم، فخرجوا مبادرين مسرورين بذلك. يقول تعالى فى سورة «الأحزاب»: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرًا». لقد كانت معركة الأحزاب التى وقعت سنة ٥ هجرية حدثًا فاصلًا فى تاريخ الصراع بين الإسلام والشرك، وقد انكسرت شوكة المشركين بعدها كثيرًا، وكان للانتصار المعنوى الذى حققه المسلمون فيها أثر كبير فى التمهيد للحدث الأكبر الذى وقع سنة ٨ هجرية.
كانت معركة الأحزاب التى وقعت سنة 5 هجرية حدثًا فاصلًا فى تاريخ الصراع بين الإسلام والشرك
0 تعليق