في كيان واحد انطلقت مؤسستان بخطة استراتيجية موحدة تهدف إلى إحداث تحول شامل، مسلحتين بالأهداف والموارد ذاتها، ومع ذلك، بعد أربع سنوات، كانت الأولى قد ضاعفت إنتاجيتها بنسبة 65%، ورفعت كفاءتها التشغيلية بـ 40%، بينما الأخرى تراجعت إلى حالة ركود، بالكاد تحافظ على موقعها السابق، لم يكن الفرق في الخطة، بل في العقلية التي أدارت بها كل مؤسسة استراتيجيتها: هل كانت رؤية حية تُترجم إلى أفعال، أم وثيقة منسية تتراكم عليها التقارير؟
المؤسسة الأولى أدركت أن الاستراتيجية ليست هدفا بعيد المدى، بل أسلوب عمل متكامل، فوضعت أهدافا محددة قابلة للقياس، وربطت كل قرار برؤيتها الشاملة، بينما غرقت الثانية في أهداف فضفاضة بدت طموحة على الورق، لكنها افتقرت إلى آليات تنفيذ حقيقية.
الأولى أعادت هيكلة بيئتها الداخلية، استثمرت في كوادرها، وحدثت أنظمتها الداخلية لمواكبة التغيير، مما جعل الهيكلة جزءا من تحولها الفعلي، أما الثانية، فبالرغم من تحديث هيكلها التنظيمي، فقد اعتبرته إنجازا نهائيا بحد ذاته، متشبثة بإجراءات شكلية دون إدراك أن الهيكلة مجرد وسيلة وليست غاية.
حين واجهت المؤسسة الأولى تحديات استجابت بمرونة، وأعادت ضبط مسارها، وتعلمت من الأخطاء، كانت خططها مرنة واقعية، مما مكّنها من التأقلم مع المتغيرات دون أن تفقد بوصلتها الاستراتيجية، أما الثانية فبعد أن غرقت في أهداف فضفاضة دون آليات تنفيذ واضحة، استمرت في التعامل مع استراتيجيتها بشكل غير متسق، فتارة تنفذ بعض الجوانب بحماس، وأخرى تهملها، مما أدى إلى عدم استقرار الأداء وصعوبة التكيف مع التغيرات المحيطة.
وبينما تحولت الأهداف في الأولى إلى التزام يومي، مدعوم بالتدريب المستمر، والتحفيز المدروس، والمساءلة الفعالة، كانت الثانية تؤدي المهام بروتين ممل، حيث غاب الدافع، وتلاشى إحساس الموظفين بأهمية دورهم، والأسوأ، أنهم لم يكونوا على دراية بمسار خطة مؤسستهم الاستراتيجية، ولم يعرفوا إلى أين تتجه، مما جعلهم يفقدون الثقة في مستقبلهم الوظيفي.
لكن الفرق الأعمق لم يكن فقط في التنفيذ، بل في طريقة تبني الاستراتيجية داخل ثقافة العمل، في المؤسسة الأولى لم تكن الاستراتيجية شعارا يُراجع سنويا، بل كانت حاضرة في كل قرار، وتنعكس في كل مشروع، وتوجّه كل عملية تشغيلية، أما المؤسسة الثانية، فكانت تركز على ما سيحدث اليوم، وإن فكرت طويلا، تنظر إلى نهاية الأسبوع، مما جعلها أسيرة للمهام اليومية دون رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
وعندما جاء وقت اتخاذ قرارات مصيرية، كانت الأولى تعتمد على بيانات دقيقة وتحليل متقدم، مما مكّنها من استشراف التحديات واستغلال الفرص، بينما اعتمدت الثانية على الحدس والتقارير التقليدية، فكانت قراراتها متأخرة، وأحيانا مكلفة.
النتيجة لم تكن مفاجئة: نجاح المؤسسة الأولى لم يكن ضربة حظ، كما أن تعثر الثانية لم يكن مجرد عثرة مؤقتة، فالاستراتيجية ليست ما يُكتب، بل ما يُنفَّذ، والمؤسسات التي تجعل الاستراتيجية جزءا من يومياتها، وتربط الأداء بالتحفيز والتطوير، هي التي تصنع النجاح.
واليوم، مع التغيرات السريعة في القطاعات المختلفة، لم يعد امتلاك استراتيجية كافيا، بل أصبحت القدرة على تفعيلها ودمجها في الثقافة المؤسسية هي الفارق الحقيقي بين المؤسسات التي تقود مستقبلها، وتلك التي تكتفي بالتكيف مع الواقع.
ختاما، هل مؤسستك تمتلك استراتيجية، أم أن استراتيجيتها تمتلكها؟ هل تسيّرها بوعي وتخطيط، أم أنها تنجرف مع المتغيرات دون رؤية واضحة؟ إن الإجابة لا تُقاس بالشعارات ولا بالتصريحات، بل بالواقع الفعلي للأداء المؤسسي، حيث تكون الاستراتيجية الناجحة حاضرة في كل قرار، ومدعومة بالبيانات، ومترجمة إلى أفعال، وقابلة للتكيف بذكاء.
لذا، قبل أن تسأل عن الاستراتيجية الأمثل، اسأل أولا: هل عقلية مؤسستك مستعدة لتبنّيها فعليا؟
AbdullahAlhadia@
0 تعليق