في عرضٍ غير مسبوق من الصمود والعزيمة، عاد أكثر من 700 ألف فلسطيني إلى شمال غزة من المناطق الجنوبية من القطاع، متحدّين الدمار الشامل الذي خلّفته العمليات العسكرية الإسرائيلية. وهذه الحركة الجماهيرية ليست مجرد حدَث لوجستي، بل تمثّل انتصاراً تاريخياً للشعب الفلسطيني، وترمز إلى تحقيق حق العودة باعتباره إنجازاً ملموساً وليس طموحاً بعيداً. والأهم من ذلك، أنها تؤكد فعالية المقاومة الثابتة في مواجهة المفاوضات الدبلوماسية التي فشلت مراراً وتكراراً في تأمين الحقوق الفلسطينية، في حين تتحدى في شكل مباشر خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإجبار الفلسطينيين على النزوح الجماعي من غزة.
السياق: وطنٌ مزّقتْه الحرب
لقد تحمّل قطاع غزة، الذي خضع لفترة طويلة من الحصار والاعتداءات العسكرية والخنق الاقتصادي، بعضاً من أكثر الهجمات تدميراً في التاريخ الحديث. فالهجوم الإسرائيلي الأخير خلّف خراباً في مساحات شاسعة من شمال غزة، حيث تحولت الأحياء السكنية أنقاضاً ودُمرت البنى الأساسية، وشُلّت الخدمات الأساسية. كما استُهدفت المدارس والمستشفيات والمنازل من دون تمييز، ما ساهم في كارثة إنسانية أثارت إدانة دولية واسعة ولكن القليل من التدخل الملموس.
كان حجم الدمار مذهلاً، حيث تم إسقاط أكثر من 85000 طن من المتفجّرات على غزة، ما أدى إلى تحويل أحياء بأكملها أرضاً قاحلة.
وتشير التقديرات إلى أن 88 في المئة من غزة جرى تدميره، الأمر الذي ترك المنطقة في حالة من الدمار شبه الكامل. ورغم كل ذلك، ظلت روح الشعب الفلسطيني غير منكسرة. وبمجرد أن سمحت الظروف، بدأ مئات الآلاف من الأفراد والأسر النازحة رحلتهم إلى ديارهم في الشمال، وكان العديد منهم يحملون القليل من الملابس على ظهورهم وذكريات ما كان ذات يوم... فهذه العودة شكلت تحدياً مباشراً لأهداف العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي ترمي إلى تهجير المجتمع الفلسطيني وتفتيته في شكل دائم.
حق العودة: من الطموح إلى الواقع
كان حق العودة حجر الزاوية في الهوية الوطنية الفلسطينية منذ أمد بعيد. وتَكَرَّسَ ذلك في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، الذي أكد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي شُردوا منها في عام 1948 أثناء النكبة. وعلى مدى عقود من الزمن، تجاهلت إسرائيل هذا الحق ولا سيما في مفاوضات السلام، وكثيراً ما صوّرتْه على أنه مطلب غير واقعي.
ومع ذلك، فإن عودةَ أكثر من 700 ألف فلسطيني إلى شمال غزة تتحدّى الإنكارَ الإسرائيلي، وهي بمثابة دليل لا يَقبل الجدل على أن حقّ العودة ليس مجرد شعار بل يمكن تحقيقه من خلال الإرادة الجَماعية والمقاومة. ولم تكن هذه الحركة نتيجة لاتفاقات سياسية أو ضغوط دولية، بل كانت مبادرة شعبية، مدفوعة برغبة الفلسطينيين الثابتة في استعادة وطنهم.
ولسنوات، تأرجحت القيادة الفلسطينية بين المقاومة المسلّحة والمفاوضات الدبلوماسية في نضالها من أجل الدولة والحقوق. وقد وعدت اتفاقات أوسلو 1993- 1995 ومحادثات السلام اللاحقة بحل الدولتين في عام 1999 ولكنها لم تسفر إلا عن القليل من حيث النتائج الملموسة للشعب الفلسطيني. إذ توسعت المستوطنات، وتَضاعفت نقاط التفتيش، وتَرسخ الاحتلال في شكل أعمق في نسيج الحياة الفلسطينية.
وعلى النقيض من ذلك، فإن العودة الأخيرة إلى شمال غزة تسلّط الضوءَ على فعالية المقاومة كأداة لاستعادة الحقوق. فهي صمدت خصوصاً في غزة، في وجه الحملات العسكرية الإسرائيلية المتعددة التي هدفت إلى القضاء عليها. ورغم الحصار والاعتداءات العسكرية، حافظت جماعات المقاومة على بنيتها التنظيمية ودعْمها الشعبي، ما جعلها بمثابة رمز للتحدي ضد الاحتلال. فهذه العودة ليست مجرد حركة مادية بل هي أشبه ببيان سياسي، وتؤكد تالياً أن الشعب الفلسطيني لن يخضع للقوة، ولا يمكن إخماد مطالبته بأرضه من خلال القوة العسكرية أو التهميش الديبلوماسي.
ولم تكن رحلة العودة إلى شمال غزة خالية من التحديات والمآسي. فقد عادت العديد من الأُسر لتجد منازلها تحولت أنقاضاً، وأحياءها غير قابلة للتعرف عليها، وأحباءها فُقدوا في العنف. ورغم الخسائر العاطفية المترتبة على العودة إلى مثل هذا الدمار والتي تفوق التصوُّر، فإنها لم تردع عزيمة أولئك الذين قاموا بهذه الرحلة.
وتُقدر تكلفة معاودة إعمار غزة بنحو 38 مليار دولار، ما يسلط الضوء على حجم الدمار الهائل، إذ تم تدمير 437.600 منزل بالكامل أو أصبحت غير صالحة للسكن. وجرى تفكيك البنى الأساسية في المنطقة في شكل منهجي: تم تحطيم 330.000 متر من أنابيب توصيل المياه و 655.000 متر من الوسائل الأساسية للصرف الصحي. كما دُمرت شبكة الطرق وشبكة الكهرباء بالكامل.
لقد جرى تهشيم غزة بالكامل، ما تركها في الظلام والعزلة. ولم يَسلم قطاع الصحة حيث تم تدمير 34 مستشفى، ما أدى إلى شل نظام الرعاية الصحية المجهد بالفعل. كما يعاني التعليم من أزمة، حيث تُرك 785 ألف طالب من دون مدارس للالتحاق بها بعد تدمير 494 مدرسة وجامعة. وتَمزق النسيج الاجتماعي، حيث أصبح 39 ألف طفل يتيماً وأكثر من 7000 أسرة بأكملها محذوفة من السجل المدني، ولم يبق منها أي ناجين.
وفي مواجهة هذه الخسارة الساحقة، تظل الإرادة الفلسطينية لإعادة البناء ثابتة ولا تتعلق فقط بمعاودة بناء المباني ولكن أيضاً بإحياء مجتمع واجَهَ محاولات منهجية لمحو وجوده. وبدأت المنظمات الدولية، رغم محدودية قدرتها بسبب الحصار والقيود المستمرّة، بتقديم المساعدات الإنسانية ودعم إعادة الإعمار. إلا أن الجزء الأكبر من الجهد يقع على عاتق الشعب الفلسطيني نفسه، الذي يُعتبر تصميمُه على إعادة بناء حياته ومجتمعاته بمثابة شهادة على روحه التي لا تنكسر.
التداعيات وردات الفعل الدولية
إن العودة الجماعية إلى شمال غزة لها تداعيات كبيرة على الساحة الدولية. فهي تتحدى الوضع الراهن للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وتجبر المجتمع الدولي على إعادة النظر في نهجه تجاه هذه القضية. فالسردية الإسرائيلية بأن حق العودة مطلب غير واقعي وخطير أصبحت الآن موضع تدقيق، حيث أظهر الفلسطينيون قدرتهم على استعادة أراضيهم دون إذن خارجي.
لقد كانت استجابة المجتمع الدولي مختلطة. ففي حين أشادت منظمات حقوق الإنسان بالعودة باعتبارها انتصاراً للعدالة، فإن العديد من الحكومات الغربية تظل صامتة أو تستمر في مقاربة المقاومة باعتبارها تهديداً للاستقرار الإقليمي. ويؤكد هذا المعيار المزدوج على الانحياز المتأصل في الدبلوماسية الدولية ويسلط الضوء على الحاجة إلى نهج أكثر توازناً يعترف بشرعية المطالبات الفلسطينية.
رسالة إلى العالم
إن عودة أكثر من 700 ألف فلسطيني إلى شمال غزة هي رسالة إلى العالم بأن الصمود والتصميم الفلسطيني لا يمكن كسرهما بالاحتلال العسكري أو التهميش السياسي بل تذكيراً بأن النضال من أجل الحقوق الفلسطينية لا يقتصر على قاعات الدبلوماسية الدولية ولكن يعيش في قلوب وأفعال الشعب الفلسطيني نفسه. كما تؤكد على الرابطة غير القابلة للكسر بين الشعب الفلسطيني وأرضه، إذ لا يمكن لأي قدْر من الدمار أو النزوح أن يقطعها.
الطريق إلى الأمام
في حين أن العودة إلى شمال غزة تمثل انتصاراً كبيراً، فإن النضالَ لم ينته بعد. إذ مازال الاحتلال الإسرائيلي يشكل تهديداً مستمراً، وستتطلب عملية إعادة البناء جهوداً مستدامة ودعماً دولياً. ومع ذلك، تم وضع الأساس لفصلٍ جديد في النضال الفلسطيني يتميز بالمرونة والوحدة والالتزام المتجدد بحق العودة.
لقد أظهر الفلسطينيون أن ارتباطهم بأرضهم غير قابل للتفاوض. وبينما يعيدون بناء منازلهم ومجتمعاتهم، فإنهم يعيدون أيضاً بناء أملهم وتصميمهم على مستقبل خالٍ من الاحتلال والقمع. وهذه العودة ليست مجرد لحظة في الزمن، بل هي بداية حقبة جديدة في النضال من أجل العدالة وتقرير المصير. ففي مواجهة الصعاب الهائلة، استعاد الشعب الفلسطيني حقه في العودة، ليس من خلال سخاء الدبلوماسية الدولية، بل من خلال مقاومته التي لا تتزعزع. وهذا الانتصار سيتردد صداه في سجلّات التاريخ باعتباره شهادة على قوة إرادة شعبٍ في استعادة وطنه.
0 تعليق