في قاعة يغمرها الضوء الأبيض البارد، وقف ترامب ونتنياهو على منصة واحدة، يوزعان الابتسامات الزائفة، متشابهان في غرورهما، مختلفان في أسلوبهما، لكن متفقان على أن الأرض الفلسطينية ليست سوى ورقة في لعبة المصالح. كان ترامب يتحدث كسمسار عقارات يبيع أوهامًا، يروج لأحلام لا أساس لها، يعد بأن غزة ستكون جنة على الأرض، لكنه لم يقل كيف يمكن لمدينةٍ أن تُبنى بينما تُهدم جذورها، وكيف يمكن لشارعٍ أن يُرصف بينما سكانه يُقتلعون؟
"لا خيارات أخرى"، قالها ترامب كمن ينفض يديه من المسؤولية، وكأنه استنفد كل السبل، وكأن العقل البشري عاجز عن إيجاد حلٍ سوى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، ورميهم حيث يشاء الساسة. "نريد إعادة إعمار غزة"، تابع قائلًا، لكنه لم يشرح كيف يمكن لإعمار أن يتم دون سكانه. متى كان العمران يُفرض بقوة المحتل، لا بإرادة أصحاب الأرض؟
لكن إذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن إعادة الإعمار الحقيقية لا تُبنى بالترحيل، ولا تقوم على أنقاض الهويات. الأمم التي عانت من الدمار لم تنهض إلا حين التفت أبناؤها حولها، حين مسكوا المعاول بدل أن يُمسك بهم المحتل، وحين رسموا مستقبلهم بأيديهم لا بأوامر الغريب.
خذوا ألمانيا مثالًا، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لم تترك النساء والرجال في برلين وميونخ وهامبورغ مدنهم المدمرة ليُعاد توطينهم في أماكن أخرى، بل بقوا، حملوا الركام بأيديهم، أعادوا بناء بيوتهم شارعًا شارعًا، وحجرًا حجرًا. هؤلاء الذين عُرفوا باسم نساء الأنقاض، لم ينتظروا مخططات خارجية تعيد بناء حياتهم، بل نزلوا إلى الميدان، لأنهم وحدهم كانوا الأقدر على فهم ما تحتاجه مدنهم، وما يجب أن يكون عليه مستقبلهم.
وفي اليابان، التي كانت هيروشيما وناجازاكي فيها مجرد رماد بعد إلقاء القنبلة الذرية، لم يكن الحل في تفريغ المدن وإعادة توزيع السكان في أماكن أخرى، بل في تمكينهم من إعادة البناء. عقدت الحكومة اجتماعات مكثفة ضمت الأكاديميين والسياسيين ورجال الأعمال، واستعانت بخبرات السكان أنفسهم في رسم مستقبل مدنهم. اليوم، تقف اليابان شاهدة على أن إعادة الإعمار ليست في استبدال الشعوب، بل في إعطائها الأدوات لإعادة بناء نفسها.
وفي البوسنة والهرسك، بعد الحرب الأهلية الطاحنة في التسعينيات، لم يكن الحل في تهجير البوسنيين وإعطائهم أوطانًا بديلة، بل في إعادة تمكينهم من مدنهم، في إعادة بناء سراييفو ومصانعها، ومدارسها، وأسواقها، لأن المكان لا يُعمر إلا بأهله، ولا تنهض الأوطان إلا بمن فيها.
وفي رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، لم يكن الحل في تهجير الناجين وإعادة توطينهم في أماكن أخرى، بل في تمكينهم من إعادة بناء وطنهم من جديد. كانت البلاد قد تحولت إلى خراب، والاقتصاد منهار، والمجتمع مفكك بفعل الجراح العميقة التي خلفتها الحرب الأهلية. لكن الحكومة الرواندية أدركت أن إعادة الإعمار لن تتم إلا بأيدي أبناء البلد، فبدأت في إشراك المواطنين في كل خطوة من خطوات التعافي.
فلماذا غزة استثناء؟ ومتى كان الدواء في اجتثاث الجذور، بدل ريّها؟ ومتى كان الحل في طمس الهوية بدل حمايتها؟ وكيف يزعم ترامب ونتنياهو أن غزة لن تنهض إلا بترحيل أهلها؟ وكيف لمن دمرها أن يقرر مصيرها؟
لا حاجة لترحيل الفلسطينيين حتى تُعاد إعمار غزة، ولا منطق في أن يكون الجلاد هو نفسه من يدّعي إصلاح ما دمرته يديه. فالعرب، لو أرادوا، لقاموا بإعادة إعمار غزة بأموالهم وخبراتهم، ولتم ذلك بمشاركة أهلها دون تهجير، ودون وصاية من أحد. غزة ليست بحاجة إلى من يحتلها ليعيد بناءها، وليست بحاجة إلى أن تُمحى هويتها حتى تزدهر، بل إنها، كما كانت دائمًا، قادرة على النهوض برجالها ونسائها، بشبابها وشيوخها، بأيدي أبنائها الذين طالما أثبتوا أن إرادة الحياة أقوى من أي حصار.
والفلسطينيون أنفسهم، بصبرهم وجسارتهم، يستطيعون بناء غزة من جديد، حتى لو تخلى عنهم العالم، فقد أعادوا بناء حياتهم مرارًا بعد كل عدوان، ورمموا جراحهم بكرامتهم، فلماذا يحتاجون لمن شردهم ليقرر كيف تكون مدينتهم؟ كيف يُعقل أن يُعهد بإعادة الإعمار لمن قصف البيوت فوق رؤوس الأطفال، وسفك الدماء بدمٍ بارد، وارتكب جرائم حرب ضد الإنسانية؟ أي منطق هذا الذي يجعل الجلاد هو المهندس، والمغتصب هو صاحب القرار؟
غزة ليست أرضًا ميتة تنتظر أن يُنفخ فيها الروح، وليست مشروعًا عقاريًا في مزاد سياسي، هي مدينة حية، نابضة، تنتمي لأهلها، ولن تبنى إلا بهم. فلا ترامب ولا نتنياهو ولا غيرهما يملكون حق تقرير مصيرها، فالأرض التي صمدت رغم الحصار، والمدينة التي لم تنحنِ تحت القصف، لا تحتاج إلى أوهامهم، بل تحتاج إلى إرادة أبنائها، وهي إرادة لم تُكسر يومًا، ولن تُكسر.
أما مصر، فقد سمعنا اسمها يتردد كثيرًا على ألسنة المتحدثين، وكأنها أرض بلا شعب، وكأن قرارها يؤخذ من خارج حدودها، وكأنها يمكن أن تُستخدم كمخزنٍ يُلقى فيه من لم يعد مرغوبًا فيهم. لم يكن هذا أول اختبار لصبر المصريين، ولن يكون الأخير، لكن من لا يعرف المصريين قد يظن أن الصبر ضعف، بينما هو في الحقيقة القوة ذاتها، ذلك الصبر الذي طالما أفسد المؤامرات وحطم المخططات التي حاولت التلاعب بمصير هذا الشعب.
لقد مرت مصر بعقودٍ طويلة من التحديات، وكانت دائمًا في قلب الصراعات، لكنها لم تتراجع يومًا عن دورها، ولم تُساوم يومًا على أمنها. فمن اعتقد أن المصريين قد يسمحون بتمرير مخططٍ كهذا، لم يقرأ التاريخ جيدًا، ولم يفهم أن هذه الأرض ليست للبيع، وأن هذا الشعب لا يفرط في ما لا يُفرط فيه.
حين كان العالم يبحث عن السلام، كانت مصر تفتح أبوابها للمفاوضات، وحين كان الآخرون يشعلون النيران، كانت مصر تطفئها. فكيف لمن كان صانعًا للاستقرار أن يُطلب منه أن يكون شريكًا في الظلم؟ كيف لمن وقف بجوار الفلسطينيين، وساعدهم في محنتهم، أن يكون شاهد زور على تهجيرهم؟
إن المصريين، الذين قدموا دماءهم في كل حرب خاضوها، والذين لم يترددوا في التضحية من أجل أرضهم وأرض أشقائهم، لن يسمحوا بأن تكون بلادهم ساحة لمشاريع مشبوهة. هذا ليس مجرد رفض سياسي، بل رفضٌ شعبيٌ لن يُساوم عليه أحد. فمن لم يستطع فرض إرادته على الفلسطينيين، لن يفرضها على المصريين.
وفي النهاية، كان المؤتمر الصحفي مجرد إعلان عن فشل جديد، لأن السياسة التي لا تفهم التاريخ، والتي تعتقد أن الشعوب تُدار كما تُدار المشاريع، محكوم عليها بالسقوط. فقد يخطط الساسة كما يشاؤون، وقد يعقد السماسرة صفقاتهم، لكن الشعوب هي التي تكتب الكلمة الأخيرة. وغزة، كما كانت دائمًا، لن تكون إلا لأهلها، وفلسطين ستبقى عصية على كل من ظن أنه قادرٌ على محوها.
0 تعليق