فى ظلام البحر الداكن، عندما تخلو الشواطئ من زوارها وتتحول أمواجه إلى كائن هائج لا يهدأ، يبدأ كريم رحلته اليومية فى الصيد.
الشاب ذو الـ٢٩ عامًا، الذى يبدو نحيلًا مقارنةً بقوة الأمواج، يقف على الشاطئ الرملى مستعدًا لمواجهة الليل والمياه الباردة، ويرتدى بدلة الغطس المبطنة بالصابون ليسهل ارتداؤها، ويتأكد من أن الكشاف مثبت جيدًا وأن بطاريته ممتلئة، ثم يعلق الحامل المعدنى ذا الشكل «D» على خصره، استعدادًا لتعليق صيده الثمين.
يُعرف «كريم» بين رفاقه بأنه أحد صيادى «البدلات المائية»، وهو أسلوب صيد خطير لا يُمارسه إلا القليلون ممن اعتادوا المغامرة فى البحر ليلًا، حيث تفضّل سمكة القاروص، التى يسعى وراءها، أن تسبح فى الليل قرب الصخور البحرية، حين يكون البحر هائجًا، مما يجعل اصطيادها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ويدرك «كريم» ذلك جيدًا، لكنه يبتسم قائلًا: «الرزق فى البحر، ولو خُفت مش هاكل عيش». تبدأ رحلته من منطقة المندرة، حيث يلقى بنفسه فى المياه السوداء ويتحسس الصخور «مصدات الموج التى ابتلعها البحر» بقدميه الحافيتين، لا يشعل الكشاف فورًا حتى لا تُدرك الأسماك وجوده، يتقدم بحذر فى الظلام، مستشعرًا كل حركة تحت الماء، عندما يصل إلى عمقه يشغّل الكشاف ويتحرى فريسته وبسرعة يجهز بندقيته اليدوية، يصوب نحو فريسته بدقة، ثم يسحبها بخيط مثبت، ليعلقها على الحامل المعدنى.
الصيد الليلى ليس مجرد مهنة، بل معركة يخوضها «كريم» يوميًا مع البحر وتقلباته، يعرف متى تكون الأمواج فى صالحه ومتى تصبح خطرًا داهمًا. ويتابع مراحل القمر، حركة المد والجزر، وسرعة التيار، فخطأ بسيط قد يعنى فقدان السيطرة والانجراف إلى الأعماق.
على الرغم من أن البحر قد يكون كريمًا أحيانًا، إلا أنه لا يرحم من يتهاون، فقد شهد «كريم» حوادث غرق لصيادين لم يعودوا، أو آخرين اصطدموا بصخور حادة تحت الماء.
«أحيانًا تشعر بأنك مجرد نقطة صغيرة فى قلب هذا البحر الهائل، ولكن عليك أن تثق بنفسك وإلا سيبتلعك البحر»، يقول «كريم» وهو يخرج من الماء، يلهث قليلًا، ممسكًا بصيده الثمين.
الغريب أن هذه المهنة الشاقة لا تدر الكثير من المال، فبيع «القاروص» الكبير قد يجلب له بضع مئات من الجنيهات، لكنها لا تكفى لتأمين حياة مستقرة. ورغم ذلك، لا يستطيع كريم التخلى عنها، فالبحر أصبح جزءًا منه، والإثارة التى يشعر بها عند مواجهة الأمواج لا يمكن تعويضها بأى شىء آخر.
عند الفجر، يعود كريم إلى منزله، يبدل ملابسه، ويتجه مباشرة إلى عمله الآخر فى إحدى ورش تصنيع الغزل بمنطقة أبوقير، العمل النهارى هو مصدر الدخل الأساسى، لكن الصيد هو شغفه، فيقول مبتسمًا: «أنا مش باصطاد علشان الفلوس بس، البحر بيديك إحساس بالحرية اللى مش هتلاقيه فى أى شغل تانى».
لكن «كريم» يدرك أن البحر لم يعد كما كان، فالسنوات الأخيرة شهدت تغيرات مناخية جعلت مصادر الرزق البحرية أكثر ندرة، فـ«القاروص» لم يعد يظهر بنفس الكثرة، والمد والجزر لم يعدا منتظمين، كما اعتاد الصيادون. كبار السن من البحارة يتحدثون عن أيام كانت الأسماك تقفز إلى الشباك دون عناء، أما الآن، فكل سمكة تُصطاد هى معركة بحد ذاتها.
قبل أن يخرج من منزله، وقف «كريم» أمام والدته العجوز التى تعلم أن كل رحلة قد تكون الأخيرة، لم تقل شيئًا، فقط وضعت يدها على رأسه وتمتمت بدعاء لا يسمعه سوى البحر، كما أرسلت له زوجته رسالة قصيرة: «كن حذرًا»، وهو يعلم أنها لن تنام حتى يعود.
والصيادون لا يخوضون البحر فقط بحثًا عن الرزق، بل يحملون معهم أساطير الأجداد، هناك من يقول إن البحر يخفى مخلوقات غامضة، وإن بعض الصيادين اختفوا لأنهم اصطادوا ما لا يجب عليهم صيده، «كريم»، رغم واقعيته، يشعر أحيانًا بأن هناك شيئًا يراقبه من الأعماق، شيئًا أقدم من الزمن نفسه.
ومع طلوع الشمس، يتلاشى ظلام الليل لكن البحر يظل هناك، ينتظر عودة «كريم» ورفاقه إلى مغامرتهم المعتادة، وبين الأمواج المتلاطمة، حيث يختلط الرزق بالمخاطرة، يقف الصيادون على الشاطئ الرملى، يراقبون الماء الذى احتضنهم طوال الليل، بعضهم يبتسم راضيًا، وآخر يمنى نفسه بحظ أوفر فى الليلة المقبلة، فمنذ سنوات، تتصاعد التحذيرات من تناقص أعداد سمك «القاروص» بسبب التغيرات البيئية والصيد الجائر.
يتبادل الصيادون التهم؛ الترفيهيون يلومون التجاريين، والتجاريون يتهمون الهواة بقتل السمك أكثر مما يصطادون، بينما تظل الحقيقة الوحيدة هى أن البحر لا يمنح أحدًا ضمانًا، ومع ذلك، يظل الصيادون يلاحقون فريستهم تحت جنح الظلام، محملين بالأمل والتحدى، مدركين أن هذا البحر الذى يمنحهم رزقهم قد يسلبهم حياتهم فى لحظة.
على أطراف المدينة، إذا سلكت الطريق السريع شرقًا نحو المنارة، ستجدهم هناك، يبدّلون الخطافات، يربطون سكاكين الغوص بأرجلهم، يشربون القهوة فى «نصبات» الكورنيش، ويتفقدون رسائل تطلب منهم الحذر، وعندما يحل الليل، يلقون بأنفسهم فى الماء، حيث لا شىء سوى البحر، والصيد، والمصير.
0 تعليق