مؤلف موسيقى "FUBAR": أم كلثوم أعادت تشكيل اللغة العربية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يوسف عباس، مؤلف موسيقي عراقي يعشق القاهرة عشقا بلا حدود، ففيها عاش وتعلم كيف يضرب أول ريشة على وتر، وكان "بيت العود" في منطقة الأزهر، مدرسته المحببة إلى قلبه والتي تخرج فيها وهو محترف ومتقن للأركان الجوهرية لصناعة المزيكا، فهو يعد تلميذا أصيلا لمدير البيت السابق ومواطنه، العازف الكبير نصير شمة.

وبرع يوسف عباس الذي يصفه بعض جمهوره بـ"معجزة العود" في مجال الموسيقى التصويرية، فصنع موسيقى عدد من الأعمال المصرية والعربية والأجنبية والتي عرض بعضها على منصات عالمية لعل آخرها موسيقى مسلسل Fubar على منصة "نتفليكس"، وحقق تميزا على مستوى استخدام الموتيفات الشرقية كخلفيات موسيقية لبعض الأعمال الغربية.

وبمناسبة ذكرى رحيل كوكب الشرق أم كلثوم، حاورت "الدستور" يوسف عباس بصفته واحدا من العازفين ومؤلفي الموسيقى الشباب، لمعرفة أبعاد تأثيرات أغنيات أم كلثوم على الموسيقى المعاصرة، وآثار منجزها على الأجيال الجديدة من الموسيقيين.

◄نعيش هذه الأيام ذكرى سيدة الغناء العربي أم كلثوم.. بعد كل هذه السنوات التي مضت على إنتاجها الغنائي ومن وحي تأملاتك الموسيقية.. هل ترى أن هناك أسرارا لم تُكتشف بعد في القدرات الصوتية لهذه المطربة العظيمة؟

بالتأكيد أم كلثوم ليست مجرد صوتٍ عظيم بل هي مدرسة فنية متكاملة لم تُكشف كل أسرارها بعد. صوتها يحمل عمقًا استثنائيًا يعكس قدرة خارقة على المزج بين الحضور الطاغي والدقة المتناهية في التفاصيل.

 عند الاستماع إلى تسجيلاتها نجد في كل مرة أبعادًا جديدة في الأداء ربما لم تكن واضحة سابقًا، مثل التحكم الخارق في النفس أثناء الغناء، والتنقل السلس بين الطبقات الصوتية دون أي عناء.

 كما كانت أم كلثوم تستثمر مخارج الحروف لتوصيل مشاعر وأبعاد شعورية عميقة، وكأنها تُعيد تشكيل اللغة العربية ذاتها بصوتها لذلك يمكن اعتبار صوتها لغزًا موسيقيًا يحتاج إلى دراسات وتحليلات مستمرة.

◄من وجهة نظر فنية وموسيقية.. لماذا لم تظهر نسخة ثانية من أم كلثوم؟ هل صوتها يمثل إعجازا نادرا أو يصعب تكراره؟

أم كلثوم ظاهرة استثنائية وليست مجرد مغنية بصوت نادر، بل كانت نتيجة لتكامل مثالي بين الموهبة الفطرية والثقافة الموسيقية العميقة والذكاء الفني النادر، بالإضافة إلى العمل الدائم على تطوير الذات، والزمن الذي عاشت فيه لعب دورًا أساسيًا في إبرازها حيث كان الطرب العربي في قمته والجمهور كان يبحث عن العمق والإحساس وليس فقط الترفيه الفني، والظروف الثقافية والاجتماعية والفنية ساعدت على بروز أم كلثوم التي لن تتكرر بسهولة، لذلك من الصعب ظهور شخصية فنية تجمع كل هذه المقومات وتخلق حالة مشابهة.

◄هل ترى أنها كانت محظوظة بمُلحنيها أم أن ملحنيها هم المحظوظون بها؟

العلاقة بين أم كلثوم وملحنيها كانت علاقة تكامل فني منقطع النظير، ملحنون عباقرة مثل رياض السنباطي محمد القصبجي وزكريا أحمد وجدوا في صوتها أداة مثالية لتحقيق رؤاهم الموسيقية وتجسيد أفكارهم الإبداعية على أرض الواقع.

 أم كلثوم من جهتها كانت ذكية في اختيار من يعملون معها، وكانت تطالبهم دائمًا بتقديم أفضل ما لديهم، يمكن القول إنهم كانوا محظوظين ببعضهم البعض لأنهم معًا أسسوا تراثا فنيًا يصعب تجاوزه وتركوا بصمة خالدة في تاريخ الموسيقى العربية.

يوسف عباس
يوسف عباس

◄هل هناك تأثيرات فنية لتراث أم كلثوم في الموسيقى المعاصرة؟

تراث أم كلثوم هو جزء لا يتجزأ من الهوية الموسيقية العربية حتى الموسيقى المعاصرة تحمل بصماتها بطرق مباشرة وغير مباشرة، تأثيرها يظهر في أساليب التلحين وتقنيات الغناء وطرق الأداء، وعلى الرغم من التغيرات الثقافية والموسيقية إلا أن أم كلثوم علمتنا أن الفن الحقيقي ليس مجرد لحظة استماع بل هو تجربة وجدانية وفكرية تعيش في وجدان المستمع على مدار الأجيال، والعديد من المحاولات اليوم يسعى لإعادة إحياء روحها سواء في الأعمال الكلاسيكية أو من خلال تجارب شبابية حديثة تحمل طابعًا جديدًا.

◄أنت عراقي وتعيش في مصر وتخرجت في بيت العود بالقاهرة.. لماذا اخترت دراسة الموسيقى في مصر؟

مصر ليست مجرد دولة بالنسبة لي، بل هي مهد الموسيقى العربية وموطن الروح الموسيقية الشرقية إذا أردت أن تفهم الموسيقى الشرقية في جوهرها الحقيقي عليك أن تعيش في هذا المناخ الفني العريق.

وبيت العود في القاهرة كان بالنسبة لي محطة استثنائية ساعدتني على صقل موهبتي وتوسيع مداركي الفنية، ومن خلال دراستي هناك تعلمت كيف أوازن بين الجذور الشرقية والانفتاح على الأنماط العالمية، وكيف أستخدم الموسيقى كوسيلة للتواصل بين الثقافات المختلفة.

◄لك تجربة مهمة في صناعة الموسيقى التصويرية خاصة لأعمال أجنبية.. ألم تواجه تحديات في ظل أن ثقافتك الموسيقية شرقية بالأساس؟

بالتأكيد كانت التحديات موجودة لكنها شكلت فرصة رائعة لإبراز قوة الموسيقى الشرقية في التعبير العالمي، ثقافتي الموسيقية الشرقية منحتني أدوات فريدة ساعدتني على إضافة أبعاد جديدة إلى الموسيقى التصويرية للأعمال الأجنبية، والتحدي الأكبر كان في الحفاظ على هويتي الموسيقية من جهة وتقديم عمل يتناسب مع متطلبات السينما العالمية، من جهة أخرى، النجاح في هذا المجال لم يكن فقط كسرًا للحواجز الثقافية بل كان أيضًا ترجمة للقيم الإنسانية المشتركة بلغة الموسيقى.

◄أنت كمؤلف موسيقى.. كيف تصنع التتر أو الخلفية الموسيقية؟

عملية صناعة التتر أو الخلفية الموسيقية تبدأ دائمًا من القصة الموسيقى، فهي ليست مجرد أصوات تُضاف للعمل بل هي عنصر مكمل للسرد الدرامي، أدرس تفاصيل الشخصيات والأحداث وأبحث عن المشاعر التي قد لا تصل عبر الحوار، ثم أبدأ بترجمتها إلى أنغام ومقطوعات موسيقية، وأستخدم الأدوات الموسيقية كأنني أكتب مشهدًا إضافيًا يجعل المشاهد يشعر بالانسجام التام بين الصورة والصوت، لأن الموسيقى في النهاية هي التي تعبر عما قد تعجز الكلمات عن نقله.

◄هناك تترات وموسيقى تصويرية لأعمال مثل "زيزينيا" و"حديث الصباح والمساء" و"المال والبنون" وغيرها ما زالت تسكن وجدان المستمع والمشاهد العربي.. لماذا اختفت تلك الحالة في الأعمال المعاصرة؟ وهل السبب فنيّ فقط؟ أم أن ذائقة الجمهور الحالي لم تعد تستوعب هذه الأنماط؟

اختفاء التترات العميقة التي كانت تعلق بوجدان الجمهور يعود إلى عدة عوامل، أولها التغيرات الثقافية والاجتماعية التي أثرت في طبيعة الأعمال الفنية اليوم، في الماضي كانت النصوص والموسيقى تعملان معًا لتوصيل رسائل ذات عمق وإحساس، كما في أعمال مثل "زيزينيا" أو "حديث الصباح والمساء" أما الآن فقد يطغى الجانب التجاري على الجانب الفني، ما يحد من الاهتمام بالتفاصيل الموسيقية كما أن الجمهور نفسه تغير وأصبح أكثر تنوعًا وأقل صبرًا لتقدير العمل الموسيقي العميق، لكني أؤمن أن الجمهور سيعود لتقدير هذه الأعمال عندما يُقدم له شيء يحمل الروح نفسها.

◄الغناء يشهد على مدار العقود الماضية عملية تطوير مستمرة ولعل آخر ما سمعناه في السنوات الأخيرة من أنماط كانت "المهرجانات" و"الراب" والتِّيراب" وغير ذلك.. من متابعاتك الفنية هل نحن على موعد مع تطور جديد مرتقب؟

الغناء العربي لم يتوقف عن التطور أبدًا لكنه يأخذ أشكالًا مختلفة تناسب كل زمان ومكان، والأنماط الجديدة مثل المهرجانات والراب تعكس واقعًا ثقافيًا واجتماعيًا جديدًا، قد تكون هذه المرحلة جزءًا من تطور أكبر، ونحن بحاجة إلى تجارب فنية جديدة تجمع بين التراث والحداثة، وهذا ليس مستحيلًا المهم أن يكون هناك وعي بأن الموسيقى ليست مجرد وسيلة للترفيه بل هى أداة قوية للتغيير والتواصل، وأرى أن المستقبل يحمل الكثير من الإمكانيات المثيرة والمبهرة.

◄كيف تُصنّف موسيقى التكنو من منظور فني؟ وهل تستخدمها في أعمالك؟

موسيقى التكنو تُعد نوعًا موسيقيا مهمًا، للغاية فقد أحدثت تحولًا جذريًا في العديد من الأفكار، خاصة في مجال التأليف الموسيقى.

 هذه الحركة الموسيقية التي بدأت في أواخر الستينيات واستمرت في التطور عبر العقود استطاعت أن تشكل هوية متفردة بفضل التكنولوجيا الحديثة مثل آلات السينثيسايزر التي أصبحت العمود الفقري لهذا النوع الموسيقي في أعمالي الأخيرة في مجال الموسيقى التصويرية.

فقد استخدمت موسيقى التكنو ودمجتها مع موسيقى الرايف بمصاحبة موسيقى العود، مما أفرز شكلًا جديدًا ومتميزًا من الموسيقى، هذا التزاوج بين التقاليد والحداثة أظهر إمكانيات لا حصر لها للتكنو، ما يجعلني أؤمن بأنها تمثل مجالًا واسعًا وعميقًا للغاية، ولا يمكن إغفال أهميتها وتأثيرها في عالم الموسيقى.

 التكنو ليس مجرد أصوات إلكترونية بل هو رحلة ومزيج من التكنولوجيا والإنسانية في وقت واحد، كما قال خوان أتكينز، أحد الآباء المؤسسين لهذا النوع، بينما يرى كارل كريغ، أن التكنو العظيم هو الذي يتجاوز الضجيج ويمنحك شعورًا بالحرية، إنها  موسيقى تفتح أبواب الخيال، وأذكر أيضا قول جيف ميلز بأن التكنو هو وسيلة لخلق عالم موازٍ، صوت ينقلك إلى ما وراء الواقع، وكذلك ريتش هوتين الذي عبّر عن أن العظمة في التكنو تكمن في بساطتها، فهي موسيقى تبني جسرًا بين المستقبل والحاضر.

لذلك التكنو العظيم، ليس ضجيجًا عشوائيًا، بل فكرة ورؤية تحمل المستمع إلى عوالم جديدة، ومن هذا المنطلق فإن استخدام هذا النوع في الإبداع الموسيقي التصويري يمنحه بعدًا جديدًا يجمع بين الجماليات السمعية والتجارب الإنسانية الفريدة.

يوسف عباس
يوسف عباس

◄ألا تشعر بالقلق من أن الـAI قد يلغي وظيفة المؤلف الموسيقى في القريب العاجل؟ وهل ترى أن الموسيقى الناتجة عنه حقيقية أو بمعنى آخر تمتلك روحا فنية؟

الموسيقى في جوهرها، ليست مجرد أصوات منظمة أو أنغام تُسمع؛ إنها تجربة إنسانية خالصة، لغة تخرج من الروح لتخاطب الروح.

لكن ما يحدث اليوم مع الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في صناعة الموسيقى يثير الكثير من التساؤلات، وربما الحزن.

فقد أصبحت بعض الألحان أشبه بمنتج ميكانيكي لا يحمل أي عمق إنساني، وكأنها مجرد تكرار لما سبق دون شعور حقيقي أو معنى.

حين تستمع إلى هذه الموسيقى المصنعة بالكامل في برامج الحاسوب، تفتقد ذلك العنصر الذي يجعلك تشعر بإنسانيتك. لا تجد فيها دموع الفنان، أو لحظات انتصاره، أو حتى آلامه التي صاغها بصوت يعبر عن وجوده.

بدلًا من ذلك، تبدو هذه الألحان كأنها مصنوعة من أجل الكمال التقني فقط، لكنها خالية من العيوب الإنسانية التي تمنح الموسيقى معناها الحقيقي.

الموسيقى الحقيقية تنبع من مكان عميق في داخلنا، من تجاربنا وأحلامنا، من لحظات الفقد والفرح، من كل تلك المشاعر التي تجعلنا بشرًا.

أما الموسيقى التي تُجمع في برامج الحاسوب فهي مجرد أصوات مكررة، ليست لها روح أو بصمة تُميّزها، إنها أشبه بصورة جميلة لكن بلا حياة، وأتذكر قول بيتهوفن: “الموسيقى تكشف ما لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنه"، لكن ما الذي يمكن لموسيقى الذكاء الاصطناعي أن تكشفه؟ هل تستطيع أن تبوح بسر إنساني، أو تعبر عن ألم دفين؟ هل تستطيع أن تهز أعماقك لأنها جاءت من أعماق شخص آخر؟ المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في محاولتنا استبدال العنصر الإنساني بشيء لا يستطيع أن يكون إنسانيًا أبدًا. التكنولوجيا أداة عظيمة إذا كانت تُستخدم لتوسيع آفاق الإبداع البشري، لكنها تصبح عائقًا عندما تحاول أن تحل محله.

الموسيقى ليست منتجًا؛ إنها فعل إنساني، لقاء بين الفنان والمستمع، مساحة تُخلق فيها المشاعر التي تجمعنا كبشر، علينا أن نتذكر دائمًا أن أعظم الألحان جاءت من بشر عاشوا، وتألموا، وأحبوا. ومن دون هذه التجارب الإنسانية، ستظل الموسيقى مجرد ضجيج، مهما كانت متقنة، لأن ما يجعلها موسيقى حقًا ليس الصوت، بل الروح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق