من الأمور التي تشد انتباهي عند تذكر تلك الأنشطة، وخاصة النشاط الزراعي، ذلك المشهد الجمالي العابر للأزمان المتعاقبة في انتقال المهارات التخطيطية والتنفيذية من الأجيال السابقة إلى ابن القرية الحالي، والتي تتماهى إلى حد كبير مع رونق العلوم ذات التوسع الكبير في عصرنا الحديث، وخاصة في مجالات إدارة المخاطر وإدارة الأزمات واستمرارية العمل. ورغم بساطة الإجراءات والحوكمة والرقابة، إلا أن ذلك المنتج الزراعي الموسمي يظهر بجودته المعتادة كمصدر لوجستي يمد أهالي القرية بالحد الأدنى من الغذاء، ويمكنهم من اتساع الوفرة المالية في عمليات البيع والشراء.
تجد المزارع في القرية، رغم بساطة الأدوات والإمكانات، إلا أنه بمثابة الخبير الاستراتيجي الذي يعمل من بداية الموسم مدركا لكل تلك المخاطر غير المتوقعة التي يمكن أن تقع، مع وضوح تام في الأهداف النهائية بأن يتم إنتاج المحاصيل الزراعية في نهاية الموسم بكل أمان وبالجودة المطلوبة. تبدأ رحلة التأسيس للركيب (المزرعة) من وضع العراق (حدود المزرعة) في شكل متين ومرتفع يتم من خلاله تفادي السيول الجارفة (Mitigation Risk) وهندسة السواقي بطريقة تجعل الماء يتهادر بكل سلاسة دون مجهودات كبيرة لجلب الماء (Risk Control). يحرص على توزيع محاصيله بين عدة أنواع من المزروعات، فمثلا يزرع القمح بجانب الذرة، لضمان أن أي تقلبات في الطقس أو الآفات الزراعية لن تؤدي إلى خسارة شاملة (Risk Diversification). كما أنه يعتمد على تدوير المحاصيل للحفاظ على خصوبة التربة، وهذه نظرة استدامة بعيدة المدى (Risk Adaptation)، ويخزن جزءا من الإنتاج تحسبا لأي ظروف قاسية (Risk Retention)، مما يعكس فهما عميقا لمبدأ التنوع والتخفيف من المخاطر وإدارة المخاطر بمفهومها الواسع.
في جانب إدارة الحالات الطارئة والأزمات المختلفة (Crisis Management)، تجد لدى المزارع مرونة عالية (Resilience) في مواجهة الأزمات الطارئة من خلال استراتيجيات سريعة وقابلة للتكيف. عند وجود جفاف بسبب قلة مياه الأمطار، يقوم المزارع فورا بتوزيع المياه المتاحة وفقا لأولويات المحاصيل الأكثر احتياجا، فهي استراتيجية تكتيكية (Tactical Crisis Management) تستخدم لتحقيق أقصى استفادة من الموارد المحدودة في تلك الأوقات الحرجة، فضلا عن الجهد الموازي في البحث عن تأمين مياه إضافية من خلال الآبار المجاورة أو المياه التي تم تخزينها مسبقا من مياه الأمطار (Immediate Securing Response).
وتجد مفاهيم استمرار الأعمال (Business Continuity) أيضا لها حظ في تطبيقات ذلك المزارع، فوجود مكان آمن ودافئ لتخزين الحبوب من أجل الحماية الطويلة الأجل يقع ضمن أولويات ترتيبات الأعمال لديه، وهو إدارة الموارد (Resource Management)، وهي جزء أساسي من خطة استمرارية الأعمال (Business Continuity Plan). كما يضع في الحسبان المحاصيل التي ستؤثر بشكل أكبر على دخله إذا توقفت أو أهميات الذائقة الغذائية، ويعطيها الأولوية في التخزين أو الري (Business Impact Analysis). ويضع في الحسبان ماذا سيعمل في حال تعطلت تلك الآلة الزراعية الوحيدة (الحراثة) التي يعمل بها، بأن يستعين بآليات المزارع المجاورة، وفي الوقت نفسه يتحرك سريعا لإصلاح هذه المعدة من خلال قنوات إصلاح معروفة سلفا لإدراكه مسبقا أن ذلك يؤدي إلى توقف العمل أو تعطيل العمليات بأكملها في المزرعة (SPOF-Single Point of Failure).
ما يلفتني حقا كيف أن هذا المزارع البسيط قد فهم بطريقته الخاصة أن إدارة المخاطر والأزمات واستمرارية العمل ليست سوى أجزاء متكاملة من عملية واحدة. فكل أزمة كانت بالنسبة له فرصة لتحسين استعداده، وكل تهديد كان حافزا لتطوير أفكاره المستقبلية، وكأنه تعلم أن في تكامل هذه المفاهيم تكمن الحكمة الحقيقية، فكلما كان هناك امتزاج فكري وتطبيقي متجانس لهذه المفاهيم، كانت المرونة المطلوبة في أفضل صورة لها، وهو العامل الأكبر والأكثر تأثيرا في جانب استدامة نمو الإنتاج الزراعي على المدى البعيد.
0 تعليق