نظمت وزارة الثقافة، ندوة «الخليج وذاكرته التاريخية»، أمس ضمن فعاليات موسم الندوات الرابع، وذلك بالشراكة مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وجاءت الندوة التي أدارتها السيدة إيمان الكعبي مدير المركز الإعلامي القطري، لتسليط الضوء على أبعاد الذاكرة التاريخية في منطقة الخليج العربي ودورها في تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية، وشارك فيها كل من سعادة السيد خالد بن غانم العلي عضو مجلس الشورى، والدكتورة آمنة صادق أستاذة مساعدة في مركز دراسات الخليج في جامعة قطر، والدكتورة العنود آل خليفة، باحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
وارتكزت مداخلة سعادة السيد خالد بن غانم العلي، التي حملت عنوان «تشكيل الذاكرة التاريخية» على ثلاثة محاور رئيسية وهي: الذاكرة كمصدر تاريخي، وتشكيل الذاكرة التاريخية، وكيف نصل إلى ذاكرة تاريخية موثوقة، حيث قال إنه يجب على المؤرخ ألا يقبل الكتابة التاريخية من أي مصدر من دون نقد، لأنها عرضة للتشويه، والإسقاطات، بل عليه أن يجتهد في مقارعة النصوص بعضها البعض، ونقدها حتى يتمكن من أن يصحح ما أدخل عليها، ليخرج منها برواية أقرب إلى الحقيقة التاريخية.
وأضاف سعادته لكي نبني ذواكر تاريخية يمكن الوثوق بها، ونتجاوز الذواكر التاريخية التقليدية أو تلك غير التقليدية وغير النقدية يجب على المؤرخين الخليجيين الجادين إعادة كتابة تاريخهم للوقوف على مدى موضوعيتها أو صحة الصورة المنقولة عن مجتمعاتهم، والتي بدورها تشكل الذاكرة التاريخية
وطالب سعادة السيد خالد بن غانم العلي، بضرورة إعطاء قيمة أكبر للذاكرة المحلية التي دونت من خلال الفاعلين فيها، مثل ديوان الشيخ جاسم والذي يجب أن يأتي في مقدمة المصادر التي نستقي منها الذاكرة التاريخية القطرية، وهنا سيتحقق لنا هدفان الأول إما تصحيح الذاكرة المستعادة أو تصحيح الذاكرة المستعادة للذاكرة المحلية، وهذا سيؤدي إلى أهلنة أي «خلجنة الكتابة التاريخية» في سياقنا الخليجي.
ورأى أنه لكي نخرج بذاكرة تاريخية موثوقة نحن بحاجة إلى عدة أمور أهمها: تجاوز الكتابة السردية والوصفية للتاريخ التقليدي، إلى مرحلة الفهم، ثم تطبيق النظريات والمنهجيات العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى ثم مرحلة المقارنة والتحليل، وصولا إلى التقييم أو إصدار الحكم بصحة الذاكرة التاريخية المنقولة، والتي تنقلها الذاكرة المحلية، أو الذاكرة التاريخية المستعادة التي كتبها آخرون عن منطقتنا.
مسارات متشابكة
من جهتها قدمت الدكتور العنود آل خليفة، ورقة بعنوان «الهوية الجماعية في دول الخليج العربي ما بين الماضي والمستقبل.. المتاحف أنموذجا» أوضحت فيها أن الهوية الخليجية كانت نتاج مسارات تاريخية متشابكة من التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شكّلت ملامح الانتماء عبر الأزمنة.
وأشارت إلى أن الذاكرة الجماعية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي عملية ديناميكية تعيد تشكيل الهوية باستمرار وفقًا للتحولات التي تشهدها المنطقة.
وأوضحت أن الهوية الخليجية لم تكن ثابتة أو منغلقة، بل تطورت عبر التاريخ نتيجة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مؤكدةً أن التاريخ لا يُنظر إليه كواقع جامد، بل كمصدر مرن يعاد من خلاله إنتاج الهوية الجماعية.
وأشارت إلى أن المتاحف الخليجية تقدم نموذجًا يعكس هذا التطور، حيث لا تقتصر وظيفتها على حفظ الماضي، بل تعد فضاءات حية تُبرز التحولات المستمرة في الهوية عبر الأجيال، مؤكدة أنها تقدم اليوم أدوارًا أوسع تتعلق بحداثة الدولة وعلاقاتها الدبلوماسية وحضورها العالمي.
وأوضحت أن الهوية الجماعية في الخليج مرت بمراحل رئيسية، بدءًا من ارتباطها بتأسيس المجتمع، مرورًا بعصر الطفرة النفطية الذي أعاد تشكيل مفهومها، وصولًا إلى توسيع نطاق الذاكرة الجماعية لتشمل ذاكرة الدولة والنخبة والتفاعل مع العالم الخارجي.
ذاكرة المكان
بدورها أكدت الدكتورة آمنة صادق في ورقتها، أن ذاكرة المكان في الخليج تعدّ عنصرًا أساسيًا في تشكيل الهوية الخليجية، حيث يرى الإنسان الخليجي نفسه ابنًا للصحراء والبحر، في إشارة إلى هويته الثقافية والاقتصادية. وأوضحت أن البحر كان على مدار التاريخ مصدرًا للرزق من خلال التجارة والغوص على اللؤلؤ والصيد، بينما شكّلت الصحراء نمط الحياة البدوية، ما عزز لدى أبناء الخليج قيم الاستقلال والمثابرة.
وأوضحت أن مفهوم الهوية يتجاوز البعد البيئي إلى البعد الجغرافي والقومي، إذ يصف الخليجي نفسه بأنه “ابن الخليج”، أما على المستوى المحلي، فإن ارتباط الإنسان بمكان نشأته ينعكس في وصفه بأنه “ابن الفريج” أو القرية أو المدينة، كما هو الحال في قطر حيث يعرّف بعض السكان أنفسهم بانتمائهم إلى أحياء مثل “فريج الجسرة” أو “الريان القديم”، مما يعكس الارتباط العميق بالبيئة الاجتماعية والثقافية القريبة.
وأشارت الدكتورة آمنة صادق، إلى أن ذاكرة المكان في الخليج لم تكن بمنأى عن التغيرات المتسارعة، إذ شهدت المنطقة طفرات نفطية متعددة ساهمت في إعادة تشكيل البنية التحتية، حيث تحولت المدن الخليجية التي عرفها السكان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى مراكز حضرية حديثة مع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة. وأكدت أن هذه التغيرات أدت إلى استبدال أنماط الحياة التقليدية، مثل الفريج والأسواق الشعبية، بالطرق السريعة وناطحات السحاب والمراكز التجارية، مما ساهم في تآكل ذاكرة المكان أو تغيّر معانيها.
وشهدت الندوة حضورا كبيرا من المثقفين والأكاديميين الذي ساهموا في إثراء الندوة بالعديد من المداخلات القيمة.
جدير بالذكر أن وزارة الثقافة سوف تقيم في السابع عشر من فبراير الجاري ضمن موسم الندوات الرابع ندوة بعنوان «كيف نفهم تأثير الحضارة الإسلامية في العالم اليوم»، وذلك في جامعة قطر، ويحاضر فيها الدكتور روي كاساغراندا الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية، ويسلط خلالها الضوء على الإسهامات الكبرى التي قدمتها الحضارة الإسلامية في مجالات العلوم والفكر الإنساني، ودورها المحوري في تشكيل مسار التقدم البشري.
0 تعليق