السعوديون يملكون تلك المقومات - أعني صناعة السلام -، وذلك ليس بمنحة، أو موهبة مكتسبة مع الوقت، لا طبعا. هذه صفات تولد مع الشخص وضمن العوامل التي أسست للشخصية السعودية.
وبهبة من الله لطالما كانوا محط أنظار العالم. ولو أردت سرد الأحداث التاريخية لكنت بحاجة إلى سنوات لحصرها. لكن آخر ذلك قريب. لم يمض عليه أيام.
الأسبوع الماضي شهدت الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، اجتماعا هو الأول من نوعه بين قطبي العالم. كل وضع ملفاته على الطاولة. جاء مندوبو الساعي للملمة جراح الاتحاد السوفييتي، واستعادة أمجاده. وحضر مبعوثو الأشقر الذي ولج للبيت الأبيض للمرة الثانية، وأشغل الدنيا ومن عليها بأفكار غير قابلة للتفكير، ولم يبلغ بعد الوقت الكافي لاستيعاب صدمة زعامته مرة أخرى للولايات المتحدة الأمريكية.
بحثوا أزمة الحرب الروسية الأوكرانية بالدرجة الأولى. وربما بعض الملفات العالقة، التي تعد محل خلاف بين موسكو وواشنطن. السؤال، لماذا جاؤوا للمملكة؟ للثقة التي تتشكل في الذهنية الغربية، وأن السعودية جديرة للعب دور الوسيط، لا سيما أنه معروف عنها جنوحها للسلام العالمي والدولي.
ماذا بعد؟ لما تجده القيادة السعودية متمثلة بوالد الجميع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز؛ وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، من تقدير عالمي في محطات صنع القرار الدولي.
وتلك الركيزة يقوم عليها الإعجاب الدولي بالخط السياسي السياسي، والمأخوذة بعين الاعتبار في العواصم الأجنبية. وهذا يرتبط بعدة عوامل - أقصد المنهج السعودي -، ما هي؟ يفضل ساسة العالم، الرصانة والهدوء والحكمة، وعدم الفجور بالخصومة في السياسة. وهذه صفات تتصف بها الرياض والأدلة كثر. ماذا أيضا؟ من يسلك مسلك الحياد الاستراتيجي، له حظوة كبيرة في العالم أجمع. والرياض لها نصيب كبير من ذلك.
وهناك عامل في منتهى الأهمية يغفل عنه الكثير. ما هو؟ ترفع السعوديون عن المنة والغرور النابع من تقديم الخدمات أو المواقف، كيف؟ تلغي الرياض من قاموسها فكرة إشعار الآخر بالنقص في حال العطاء. ما الدليل؟ توسطها "بعيدا عن الأضواء" في إطلاق سراح الأمريكي مارك فوغل المعتقل في السجون الروسية منذ عام 2021، وقد استقبله ترامب مؤخرا. ولم تتحدث المملكة رسميا عن ذلك لا من قريب ولا من بعيد، بل إن وسائل إعلام أجنبية كشفت عن ذلك. وتلك الخطوة قابلتها واشنطن بالإفراج عن مواطن روسي كان يقبع في أحد سجونها.
بالمناسبة كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الوسيط في عملية الإفراج عن المواطن الأمريكي من موسكو. ولم يتحدث الإعلام السعودي عن تلك الجهود من باب عدم المنة الذي ذكرته مسبقا. فنحن قيادة وشعب لا نحب "الطنطنة" ولا نجيد فنونها.
على كل حال هذا ليس جديدا، فولي العهد كان سببا بإطلاق سراح أسرى من عشر دول، في إطار عملية تبادل بين موسكو وكييف في 2022. وفي أغسطس 2023، رتب لقاء لممثلي أربعين دولة، للجلوس على طاولة محادثات بهدف تخفيف التصعيد وإنهاء الصراع الروسي الأوكراني.
وبالمصادفة، ساعة كتابة هذا المقال، كان دونالد ترامب على الهواء مباشرة، يزجي شكره للسعودية على دورها في المحادثات مع روسيا. وقد عبر عن تقديره لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، على استضافته محادثات وصفها بالتاريخية بين بلاده وروسيا. واعتبر الدور الذي لعبته السعودية دورا عظيما.
ولحقه القيصر فلاديمير بوتين وأبدى شكر ولي العهد "بشكل شخصي"، كما هو حال وزير خارجيته العتيد سيرجي لافروف، الذي أثنى على مواقف الأمير محمد بن سلمان في خلق الأجواء للقاء الأفرقاء الروس والأمريكان.
لقد استطاعت السعودية ردم فوهة بركان مشتعل منذ عقود من الزمن، بين قطبين هما الأقوى في العالم. الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية. وهما أكثر دولتين تستعدان للحرب والمواجهة.
وهذا لم يكن من باب الصدفة، بل بأمر من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، لولي العهد الذي هندس اللقاء بين مسؤولي الدولتين، بالحنكة والاتزان المعهود على صانع القرار السعودي.
وبالنوايا الصادقة المعلنة والمخفية، أثبتت المملكة للعالم - وهي ليست بحاجة لذلك - أنها عامل بناء وتعمير الأرض، لا باحثة عن الهدم والنزاعات والحروب، كما يروج له بعض الأغبياء.
فاجتماع المتخاصمين بالصمت والكلام، والإعلام، وبسباق بالتسلح، وفي الأرض، والسماء، بل وحتى الفضاء، أثبت حكمة السعودية، ودهاء صانع قرارها. فمشهد تقابل ألد الأعداء على طاولة ساحرة في الرياض، أصاب العالم بذهول قدرتها، ومدى الثقة العالمية بها.
إن السعوديين حققوا بساعات ما لم يحققه مجلس الأمن والأمم المتحدة ومبعوثو السياسة ومندوبوها خلال عقود. فجلوس هؤلاء أمام بعضهم بعضا يعد نجاحا واختراقا ساحقا لأعتى الدوائر العالمية يحسب لهم - أي للسعوديين -، ولا ينتظرون ثمنا لذلك.
حدث ما حدث. وتحقق ما تحقق. جلس أبناء القوة مقابل أرباب السلاح. تصافحوا، تبادلوا نظرات الرضا وربما العتب. والتقطوا الصور التذكارية. وبدت باهية بكسر هل العوجا الجليد، بعاصمة دولتهم الأولى.. بعيدا عن نواح الذئاب المجروحة.
0 تعليق