الرِّياض.. مؤتمر إعلام و«مترو» يُصهر المسافات

جريدة عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عُقد منتدى الإعلام السُّعوديّ (2025)، بعاصمة المملكة العربيَّة السُّعوديَّة الرّياض، في (19-21/‏2025)؛ وكان جَمُّ الحديث، وأغلب النّدوات عن شمس العصر «الذَّكاء الاصطناعيّ»، وتأثير وسائل التَّواصل الاجتماعيّ؛ والسؤال الذي يطارد الإعلاميين منذ سنوات: هل سينتهي الإعلام التقليديّ، ويظهر إعلام لم يألفه البشر؟

قَدَّرت الإعلاميَّة، مُحاورة النّدوة، ريما مكتبيّ موقفي، فخصت غيري، من المشاركين معي في النَّدوة، في أسئلتها عن المنصات الإلكترونيَّة، ولم تحرجني بسؤال منها، انتبهت إلى ذلك ليس بطلب مني ولا إشارة، إنما كانت عارفة مسبقاً بما أستطيع الدلو به، وهذه نباهة منها؛ فشكرتها على هذا الصنيع. وجهت لي ما يخص التاريخ، وما يتعلق بالطَّائفية وبثها عبر تلك الوسائط؛ فعندها أزالت قلقي، بما لا أفقهه عن ميكانيك المنصات وتأثيرها.

أعطتني المحاورة فرصة أبين بها أنَّ الطائفيَّة ماضٍ يفترس الحاضر، وما هي إلا استثمار التاريخ، من معارك ومواجهات، وما يظهر منها على المنصات الإلكترونيَّة، ونجده مفارقاً تماماً لتطور العقل البشريّ، الذي أوجد المنصات الذكيَّة، أداةً وواسطةً، لما ينتجه مِن أفكار، وتلك المنصات، التي يعبر عنها بالذكاء الاصطناعيّ، ليس فيها غير ما يُغذيها العقل البشريّ مِن مشاريع، والطائفيّة أحد هذه المشاريع، التي أصبحت كالماء للسمك بالنسبة للأحزاب الدينية، والسُّلطات التي شيدت قوتها عليها، فلا حياة لها مِن دونها.

فمثلما نتعرف على أحدث الإنجازات الطبيّة والإنسانيَّة العظيمة، نتعرف بموازاتها على ما ينجزه الطَّائفيون مِن الشُّرور؛ فالمبهورون، الخائفون والحالمون، بهذا العملاق الكونيّ -الذكاء الاصطناعي- ينسون إنجازات العقل البشريّ في المجالات كافة، الخير والشَّر، حتَّى أخذ الانبهار إلى إمكانية وجود عقل موازٍ، ليس للبشر سلطان عليه.

كانت محطة المترو «الغرناطيَّة» ملاصقة لفندق هلتون الرياض، حيث يُعقد منتدى الإعلام؛ وسبق أن جربته عند افتتاحه، بفضل دعوتي إلى «معرض المخطوطات» (2/‏12/‏2024)، مِن قِبل وزارة الثَّقافة، والصّديق الصَّحافي ناصر الحقبانيّ، رئيس مكتب «الشَّرق الأوسط» بالمملكة العربيّة السّعوديَّة، فقد جاء المقترح منه، وترافقنا، مِن «الغرناطيَّة» إلى محطة مكتبة الملك فهد، حيث يمتد أجمل شوارع الرّياض «التّحلية»، والتَّسمية لها علاقة بالماء، فالرِّياض تشرب وتُسقى مِن ماء البحر.

صار مِن تفوق العقل البشري، عبر العقل الاصطناعيّ، أنَّ القطارات والسيارات والطَّائرات استغنت عن القادة، تُسير نفسها بنفسها، ومترو الرّياض بينها؛ يمتد عبر شبكة طولها (176) كيلومترا، و(84) محطةً، وستة خطوط مصنفة على الألوان، وربَّما أخرى قيد الإنشاء، يسير بلا قائد، وهو أمر عجيب، بقدر ما هو مخيف، للذي يجهل التقنية الذَّكية، أن تجلس في المقاعد الأولى لعربات المترو، وترى السكك تطوى تحت عجلاته، بقيادة الذَّكاء الاصطناعيّ، وهي ممتدة على مسافات طويلة، ومساحات شاسعة مِن العُمران الحديث، فقد قيل لي إنَّ قُطر مدينة الرّياض يبلغ مئة كيلو متر.

أخبار ذات صلة

 

قد تقولون وماذا يعني وجود مترو بالرياض؟ نعم، مِن حقِّ مَن ولد وهو يتنقل في مترو لندن وموسكو وطوكيو أن يسأل هذا السُّؤال، لكن مَن يقرأ مذكرات أحد رجالات الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود (تـ: 1953)، هاشم الرّفاعي (عمل معه 1921-1925)، العراقيّ البصري، سيُبهر بوجود مترو يقطع صحراء نجد، وحاضرتها الرّياض، طولاً وعرضاً؛ وبقيادة الذكاء الاصطناعيّ، ومحطات زاخرة بالحداثة والتَّنظيم الدَّقيقة، وشبكة إنترنت، يديره مجاميع من الشَّابات والشَّباب، بزيهم الموحد، يهدونك إلى حيث تريد بابتسام وترحاب، فأقبل عليه أهل الرّياض، ومَن حل بينهم مِن خارجها، إقبالاً منقطع النَّظير، نساء ورجالاً، وحقائب يحملها المسافرون إلى المطار.

كان الزَّمن بين الضَّجة التي أقامها رجال الدِّين، في العشرينيات، ضد دخول السيارة، على أنّها فأل نحس مِن أفعال الجن، فوادي (عبقر) المعروف ليس بعيداً، ولكن بعد إقناع أحد المشايخ البارزين مِن مرافقة الملك على متنها، تراجعت هواجس الآخرين، وهذا ما يرتبط بمنع النّساء من قيادة السيارة؛ فكان اختلاق المخاوف مستمراً، ما خص الأخلاق والآداب، ومنها الخشية على الإنجاب، فالجلوس وراء مقود السيارة يضعفه لدى المرأة، حتَّى انتهت تلك الخيالات والخرافات الموانع، العام (2016) بقرار جريء، ظهر كل ما قيل أكاذيب زُج فيها الدِّين. أقول: مَن يقرأ مذكرات هاشم الرّفاعيّ (بغداد، مطبعة الرَّشيد 1939)، لا يستغرب منع النّساء من قيادة السّيارة، ويبهره قطار الرّياض.

صار «المترو» جزءاً أساسياً في عُمران المدن، وخصوصاً الكبرى منها، المتباعدة الأطراف كالرّياض. قال لي ناصر، ونحن ننظر مِن زجاج نافذة العربة الأماميّة، مكان جلوس قائد القطار المفترض: إنَّ مترو الرِّياض أكثر تطوراً مِن مترو لندن! قلت له: لكن مترو لندن احتفل، قبل سنوات، بمرور قرن ونصف على ميلاده! فماذا كانت الرِّياض آنذاك؟ مع ذلك لم يُقلل هذا مِن حماسه في الحديث عن هذا المنجز، وما رافقه مِن منجزات كبرى تحققت لنساء البلاد ورجالها.

فقبل سنوات كان وجود هذا الكائن، الذي منح الرِّياض جرعة قوية من المدنية؛ مستحيلاً، فإذا المستحيلات بدأت تتهاوى واحدة بعد أخرى؛ وهنا على قارئ خماسية «مدن الملح» أن يعيد القراءة، فمِن الوهلة الأولى يوحي عنوانها، أو هكذا كان المقصد، أنها ستذوب في الرِّمال، ومعلوم ما هي المدن التي قصدتها الخماسيَّة، لمؤلفها الأديب الفذ عبد الرَّحمن منيف (تـ: 2004).

مضت أيام المنتدى الثلاثة حافلة بالنّدوات واللقاءات، مع مَن تعاقبت السَّنوات ولم نرهم، واختتم بتوزيع الجوائز، وكانت حصة لبنان، وهو يتعافى، تكريم حازم صاغية، كاتب المقال الجليل، ومؤلف كتب تاريخ السّياسة المعاصرة. غير أنَّ اللقاءات على هامش المنتدى كانت تنافس ندواته، فكلٌّ بها أدلى بدلوه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق