حين يتحول السفر إلى وَهمِ الإبداع!

المصدر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يوم الثلاثاء قبل الماضي، توفي صديقنا الكاتب بدر عبود أحمد الزيتاني، فقررنا نحن الأصدقاء الخمسة له، أن ننشر عمله الأدبي الوحيد الذي نسخه على الورق بخط اليد، وقد أخذناه من والدته - حفظها الله- في ثالث أيام العزاء... فرحمه الله رحمة واسعة، ولكن اسمحوا لي أعزائي القراء قبل أن أخبركم لماذا قررنا نحن الأصدقاء -رغم أننا نحبه- أن ندفن روايته معه يوم السبت الماضي، أن أخبركم أيضاً ما الذي جعلنا نصل إلى هذا القرار؟

في عالم الأدب، يُشاع أن السفر هو «فيتامين الإلهام» الذي يُنقذ الكُتاب من فقر الأفكار وضعف الخيال وصفاء الذهن، و«آآه يالندن» كم كتبت في ليالي شتائك ما لم أكتبه في بيتي وبلدي! يظهر السفر بالنسبة لكثير من الكُتاب وكأنه محاولة لتوسيع المكان لجلب الأفكار عبر السفر وكأن المطار والطائرة والمكان سيُغني عن تحدب الزمان والمنظور في نفسية الأديب!

منذ 13 دقيقة

منذ 13 دقيقة

سيطرت هذه الفكرة على صديقنا بدر عبود أحمد الزيتاني، والذي وعدنا منذ عشر سنوات مضت، بأنه سوف يكتب رواية تجوب العالم كله وتغير الخريطة الطبغرافية للأدب العربي، وظل طوال السنوات الماضية يراهن على أن رحلة إلى باريس أو نيويورك أو برلين ستحوله فجأة إلى ماركيز وإبراهيم أصلان ونجيب محفوظ!

فهل حقاً السفر هو «الواي فاي» الذي يتصل منه الإبداع كما كان يعتقد بدر؟ أم أن بعض الكُتاب يخلط بين «جواز السفر» المليء بالأختام وبين الموهبة الحقيقية المليئة بالإنتاج؟

خذوا مثلاً أدباء الوطن العربي الذين يعتقدون أن رحلة إلى اليابان وجبالها أو النرويج ومنظر الغروب فيها ستجعلهم يكتبون ما يأخذ الأدب العربي للعالمية، فها هو الكاتب الكبير بدر عبود أحمد الزيتاني، طاف العالم من بوسطن إلى باريس، ومن ميلانو إلى جزيرة بوكت في تايلند، وكأنه سائح في متجر «الإلهام السريع»، ليعود لنا بعد عشر سنوات بمقولات فلسفية تلمع كالذهب... وقد تحولت رحلاته إلى مجرد «إنستغرام ستوريز» أدبية على خلفيات موسيقية، ولقطات سريعة من مطاعم ومتاحف، دون أن تلمس جوهر الإنسان!

حين تقارن فكرة بدر الزيتاني، عن الإلهام الأدبي، مقارنة بفكرة نجيب محفوظ مثلاً، تكتشف أن الفرق بينهما كجائع يقارن بين «سندويش كباب» شهيّ ومُشبع وبين «نوتيلا» مُذوبة في عود ووعود!

وحين تقارن أعمال الأدباء الذين لا يكتبون إلا في السفر بأعمال نجيب محفوظ، ذلك الرجل الذي لم يغادر حارته في القاهرة إلا ليشرب قهوته في المقهى المجاور، تكتشف أن الحصول على «نوبل» في الأدب لا يتطلب تذاكر سفر وكراسي طائرة وفنادق مطلة، بمقدار ما يتطلب الجلوس بنفسية غير متحدبة على كرسي خشبي، محدقاً في وجوه المارة، والقول «لماذا أطير إلى نيويورك وأنا أملك هنا كل مأساة الإغريق في صراخ بائع الفول؟».

النتيجة عزيزي القارئ، هي أن روايات محفوظ تُرجمت إلى 40 لغة برغبة من دور النشر وليس كجزء من تسويق الكاتب!

هذه عزيزي القارئ هي المبررات التي جعلتنا نحن الأصدقاء الخمسة له، أن ندفن عمله الأدبي معه... أما عن السبب الرئيسي فهو أن الزيتاتي، بعد عودته الأخيرة من رحلة أوروبا، قال لنا «سأكتب رواية تدور أحداثها في فيينا!»... وعندما سلمتنا والدته المسودة الأولى من روايته قائلة «ابني موهبة تستحق النشر»... أخذنا على عاتقنا أن ننشر له الرواية على حسابنا الشخصي.

ولكن عندما قرأنا العمل وجدناه أشبه بــ«مجبوس بالنكهة النمسوية»، خليطٌ من أسماء أجنبية وأوصاف ديكورات القصور وشوارع فيينا، وشخصيات خليجية تُحاك كدمى من ورق بلا روح أو طعم أو توابل ورائحة، فتأكد لنا أن الكاتب الكبير بدر عبود أحمد الزيتاتي، وأعماله هي موهبة تستحق الدفن وليس النشر!

السؤال الأهم الآن عزيزي القارئ: هل السفر في حد ذاته يصنع أديباً عظيماً؟ السفر قد يمنحك قصصاً عن غرباء، وعالم عجائبي لكنه لا يعلمك كيف تحفر في أعماق النفس البشرية. محفوظ، لم يحتج إلى فيزا ليرى الدنيا؛ لأنه فهم أن الكون كله موجود بين الأزقة في وطنه، عين ترى السحر في تفاصيل صغيرة، كصراعٍ بين جارين على دَرَجٍ مكسور، أو نظرة امرأة عجوز من شباك منزلها. تلك هي الرحلة التي لم يفهمها الزيتاني... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق