اللغة صَكٌّ بين العقلِ واللسان

24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قيلَ إنّ اللغة بابٌ من أبواب الجنّة، مفتاحه تَوقُ المعرفةِ الى المعرفة، لذلك، كانت مسقطَ رأسِ المعرفة، ونَسَبَها. واللغةُ آيةُ الزّمان، جُرِّعَ مشايخُ الوقتِ من فيضِ جداولها، فجرَت بين أيديهم اسبابُ الغَلّة، ولو سُئِلوا عن تحديدِ عُلُوِّ مكانتِها، لعَجزوا عجزًا مُبيناً.

اللغة هي وظيفة حيوية للتخلّص من إرباك العقل في التّسليم بأنّ الحقيقة موجودة ومُجدِية، وليس بدهيّاً أن يكون هذا الأمر مُحِقّا إن لم يُصَرَّح به لِيُعرَف. من هنا، كانت حال الإنسان قبل ذلك مأسوية تَعِسَة، إذ كان محكوماً عليه بالنَّظر والسَمع، من دون قَولبة ما يتلقّى في بناءٍ لَفظيّ استكفائيّ يجعلُه يتميّز، حصريًّا، دون سائر الكائنات. إنّ دنيا الإنسان بلا لغة ما هي سوى حيثيّة نظامُها خُمولٌ، وجَهلٌ على غير هدأة. فإذا كان الخروج عن أُصول هذا المجتمع "القَبإنساني" عَصِيّاً، فكيف يمكنُ أن يُهَيَّأَ لانتفاضةٍ تُصعِدُ البشر سُلَّم التطوّر والترقّي؟

إذا كانت الحياة أَعيشَ من أن تجمد في صَمت، كان على الإنسان أن يمجّدَ اللغة، لأنّها تتصّف بالبورجوازية بين كلّ ما يملكه.

لقد شُغِفَ بها فانتصر على شَلَل لسانه، هذا الشّلل الذي لو بقي صامداً، لألحق ضرراً فادحاً في سيرورة التقدّم، لا بل في الوجود بالذات.

لذلك، ليس غريباً إنْ يكون الإنسان مُتَحَيِّزاً للنّطق، فلا ارتياح للمعرفة في رحاب الصَّمت، فاللاّملفوظ هو صِنوُ اللاّموجود.

لقد أجابت اللغة عن كلّ الأسئلة بنَقلها الحقائق من القوة الى الفِعل، فالحقائق مُبهَماتٌ قبل ارتدائها شكلًا، وهذه فرضيةٌ عبَّر عنها "جاكوب" بقوله: لا وجود لأيّ شيء، ولا لأيّ فِعل، خارج مَنحهِما شكلًا.

ولمّا لم يُصنَع الإنسان من حَجَر، بل كُوِّنَ كائناً مفكِّراً منذ الأزل، كانت أفكاره المتلاحقة تُنقَش صُوَراً في تلافيف دماغه، راسيةً عند شاطئ الانتقال من جمودٍ الى حركة، مشتاقةً الى معانقة فرح الولادة.

من هنا، لم تكن، يوماً، يائسةً في سجنها، بل كانت مطمئنّة، وموعودة بنهاية سعيدة، وكانت البُشرى لغةً قامت بِسَكبِ العطور المعتَّقة في زِقاق من الألفاظ، فاكتسبت النكهة التي تستحقّ.

من هنا، فاللغة المتّصلة بكلّ الأجيال هي الأَلصقُ بالعظمة، والحاثَّة على النهضة والتطوّر، وإنْ نَكَرَ بعض الزمان حقَّها، فحقُّها أنْ لا وجود للأفكار إلاّ بها، ولا خلود للعقل بدونها.

اللغة هي عرس العقل، وهي الصورة الأَدعى الى طمأنينة الفكر، لأنها دفعت الى ولادةٍ للحقائق المعرفية التي لبثت زمنًا طويلًا في السُّدى، يوم كان العقل محكوماً بالغربة والظّلمة، عقيماً لا يقاوم ذاتَه.

أمّا الضجّة السحريّة، فكانت طفرةَ اللغة لهدم جدار الحيرة، ما جعل العقل ينفض عنه جوع الغموض، فأنتجَ تمرُّدُه أجساداً للمعارف. وهكذا، ارتاح شَوق العقل باللغة، وشاءَ فأوجدَ كثيراً، وتفضَّضَت إبداعاته التي أترفت الدنيا، وسَعَت الى نقلِها من هامشٍ الى مَتن.

اللغة تقول الصّدقَ من دون الحاجة الى وَسمٍ بالحجّة، والمنطق يسلّم بذلك، لأنّ مكوّناتها مرآة مَجازية للحقائق، أو وثيقة مؤتمَنة عليها، ولسنا هنا في معرض الجزم بعصمةِ اللغة، وبأنْ ليس فيها حقيقة وخطأ، وركيكٌ وبليغ، فهي وعاء يتّسع لأصناف عديدة.

لكنّ نظام اللغة يعادل نظام الطبيعة في قدراتها، فكما تجزّ الطبيعة الزوائد التي تنمو عشوائياً في النَّبات، كذلك تختزل اللغة الطفيليّات النامية حول تُخوم الحقائق، لتُبقيَ على صفائها.

ومهما كانت اللغة منهوكة بأثقال من العجمة، تَشظّى سُلّمُها بانحراف الألفاظ وشوّهات المعاني، فهي قادرةٌ على تنقية نفسها بنفسها، ليعود مسارُها "نقيًّا طاهرًا".

اللغة هي مقلةُ الإلهام والتي توطَّنت الرّموز فغدت عالَماً كليًّا يشتمل على الإمكانيّات الإفتراضية التي باتت تُعتَبَر ضرورة لازمة، ولها جمائل، فهي أناشيد الحياة، وآية الطّالعين على المعرفة بجوار التُّحَف الدائمة الجدّة، وهي موطنُ خيرةِ السّاخين بابتكاراتهم التي بنَوها على حدّ اليَراع، وروائعهم الموصولة الشّعاع، والتي لا تزال شاهدةً على نبوغهم وفضلهم.

ومهما يكن، فعندما تدخل اللغة في الحساب، لا يعود الإنسان في وحشةٍ من أمره، فترتاح أُذُن، وتطمئنّ نفس، ويستقيم جَمال، لأنّ، باللغة، يكون الإحساس صحيحاً، والذَّوق مُرهَفاً، وقيمة الحقائق راجحة.

وبعد، فالسلام على اللغة واجب. وإذا كانت اللغة قضيةً للعقل، فالعقل قد ربح لأنّه كان يناضل لأجل قضية رابحة.

أستاذ جامعي لبناني و كاتب

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق