بعبارات منتقاة بعناية، خاطب صاحب السمو الأمير الجسم القضائي، الذي يحكم باسم سموه، وكانت تلك واضحة المعاني، لا تقبل أي تأويل، حدد فيها ماذا تعني محاسبة النفس، خصوصاً للقاضي، الذي عليه أن يحكّم ضميره، وحياده عن كل النوازع الشخصية، مهما كانت المغريات والأسباب والدوافع.
نعم، للمرة الأولى يحدد رئيس الدولة الأسس الواجب اتباعها، فيضع كلماته في مواضعها، ليقينه أن لا أحد فوق العدالة، لذا كان صريحاً في قوله "كما تُحَاكِمونَ... ستُحَاسَبُون... فوق سلطتكم رقيب وضمير فاستشعروا مراقبة الله لكم وانطقوا بالحق تستقم أموركم".
صحيح أن الحكم القضائي يكون من خلال القانون، لكن العدل لا يقوم فقط على النصوص، فهو بالدرجة الأولى ضمير، وكذلك روحية، وليس فيه أي "فزعة" فذلك يؤدي إلى اختلال الميزان، وهذه من أعظم المنكرات عند الله سبحانه وتعالى، ولأن سمو الأمير يتحمّل أعباء الدولة، فهو يُحكّم ضميره في أن تكون الأحكام باسم سموه لا يشوبها أي خلل، من هنا قال: "صدور أحكام متعارضة ومتناقضة يثير الشك والريبة"، وهذا لا يستقيم مع تحقيق العدالة التي هي جوهر استقرار الدولة.
في دول عدة، يُمنح القاضي شيكا على بياض، يحدد فيه المبلغ الذي يريد كي لا يقع في شبهة رشوة، أو يكون تحت ضغط أي المُحتكمين إليه، فالعدل أساس المُلك، وهو ما دلت عليه عبارات صاحب السمو لأهم مرفق في البلاد، لأنه كما قال سموه: "إن السلطتين التنفيذية والقضائية هما جناحا الحكم في البلاد"، وحتى تكون محاسبة المسؤولين والمخالفين للقانون لا تقبل القسمة على اثنين، فهناك شعرة بين الحق والباطل، بيّنها سموه.
وحتى لا يقع الجسم القضائي في أي شبهة -لا سمح الله- كان سموه واضحاً، واضعاً إصبعه على موضع الوجع، محركاً المياه الراكدة في مختلف مؤسسات الدولة، وليس في المرفق القضائي وحده.
سمو الأمير كان صريحاً في مخاطبة ركن أساسي من أركان الدولة، لأنه يستشعر ضميره كرئيس كل السلطات، وهذه أرقى الممارسات المعبرة عن جوهر الحاكم القادر على التفريق بين الحق والباطل بذلك الحد الذي يكاد لا يُرى، إلا ممن لديهم حس إنساني وضمير حي.
منذ زمن قلنا إن الجسم القضائي يعالج نفسه بنفسه، ونعود للتأكيد على ذلك من خلال ما وجّه به صاحب السمو بقوله: إن "لا سلطان لنا على القاضي، لكننا نلاحظ أموراً ومسائل تمس العدالة وتوقع الشك والحيرة"، ولأن الأحكام تصدر باسم سموه -كما أسلفنا- فذلك يعني أن يكون القضاة على صورة ناصعة، لا تشوبها أي شائبة.
خطاب سموه إلى العاملين في المرفق القضائي يُكتب بماء الذهب، ويؤرخ كنبراس تجب العودة إليه بين حين وآخر، للاسترشاد به، فهو خارطة طريق للحكم الرشيد القائم على العدالة الإنسانية، عملاً بقول الله تعالى: "فلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ...".
من هنا يتأكد ما قلناه في مرات سابقة عن أن عيون رئيس الدولة على كل المرافق، لا سيما القضاء، وهذا ليس معمولاً به إلا في دول قليلة العدد، تلك التي تكون العدالة، مهما كانت صعبة، أساس حضاريتها، وإنسانيتها، وهو ما يفسر قول سموه في إحدى خطبه: "لن نسمح للديمقراطية أن تدمر الدولة"، لأن تجربة بعض الدول العربية واضحة في هذا الشأن، الجميع يرى ويسمع ماذا يجري في محاكمها، وكيف أدى ذلك إلى خرابها، أو أقله إلى أزمات فيها لا تنتهي.
أميرنا... أمير العدل، عبارات سموكم دستور قضائي، فبارك الله بكم، وأعانكم على هذه المسؤولية الكبيرة، وصدق الشاعر أبوالطيب المتنبي بقوله: "وإذا كانت النفوس كبارا... تعبت في مرادها الأجسامُ"، فجهاد النفس عظيم، أعانكم الله.
0 تعليق