ففي عام 1885م، اجتمعت القوى الأوروبية الكبرى في برلين لوضع قواعد لتقسيم أفريقيا فيما بينها، فيما عرف باسم "مؤتمر برلين". الاتفاقية التي نتجت عن هذا المؤتمر لم تراعِ الحدود الثقافية أو اللغوية أو القبلية للسكان الأصليين، بل كانت تهدف إلى تقسيم الموارد الطبيعية الهائلة للقارة.
وبناء على ذلك فقد سارعت الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، باستباحة مناطق القارة الأفريقية والتوغل في أعماقها الداخلية، وانتهت هذه المرحلة باحتلال إيطاليا الفاشية لليبيا عام 1911م، واحتلال فرنسا للمغرب الأقصى عام 1912م، وهكذا صارت سبع دول أوروبية وهي: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا وبلجيكا (مساحتها مجتمعة 734,000 ميل مربع)، تستبيح 93% من أفريقيا (مساحتها 11,300,000 ميل مربع)، أي ما يعادل 15 ضعفا لمساحة تلك الدول الأوروبية مجتمعة، ولم يتبقَ في كل أفريقيا دولة مستقلة، باستثناء الحبشة ذات الاغلبية المسيحية.
هذا التجزؤ المصطنع أدى إلى آثار مدمرة على القارة، بما في ذلك الصراعات العرقية والقبلية التي لا تزال قائمة حتى اليوم.
ومع بداية الألفية الجديدة، استمرت القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا، في السعي للحصول على الموارد الطبيعية الأفريقية. الموارد الأساسية مثل النفط والغاز والذهب والمعادن الأخرى، بالإضافة إلى الأراضي الزراعية الخصبة، كانت ولا تزال في قلب هذا الصراع. الولايات المتحدة، من خلال الشركات متعددة الجنسيات، سعت لتعزيز وجودها في القارة عبر الاستثمار في البنية التحتية وتقديم المساعدات التنموية. أوروبا بدورها، وخصوصا فرنسا، حاولت الحفاظ على نفوذها القديم من خلال التعاون الاقتصادي والشراكات الاقتصادية لكن دوام الحال من المحال.
ففي العقدين الأخيرين، ظهرت الصين وروسيا كلاعبين رئيسين في الصراع على أفريقيا الأولى من خلال مبادرة الحزام والطريق، فقد استثمرت الصين بشكل كبير في البنية التحتية الأفريقية، بما في ذلك الموانئ والطرق والسكك الحديدية. الهدف الرئيسي للصين هو تأمين الموارد الطبيعية وضمان الأسواق لصادراتها، مما زاد من تعقيد المشهد الجيوسياسي في القارة، أما اللاعب الثاني (روسيا) فقد بدأ نفوذه بالعودة بقوة في القارة بعد فترة كمون بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان يتمتع بعلاقات تاريخية مع العديد من الدول الأفريقية، وتسعى موسكو إلى تعزيز نفوذها من جديد من خلال تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي والتجاري. روسيا استفادت من الفراغ الذي تركته القوى الغربية، لتقدم نفسها كشريك بديل يمكن الاعتماد عليه، خاصة في الدول التي تشهد صراعات داخلية.
وتهدف روسيا من دخولها أفريقيا كما اللاعبين الآخرين للوصول إلى الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النفط والغاز والذهب والمعادن.
ومن الناحية الجيوسياسية، ترى روسيا في أفريقيا فرصة لتعزيز نفوذها على الساحة الدولية وموازنة النفوذ الغربي والصيني في المنطقة، فقد بلغ حجم التجارة الخارجية لروسيا مع الدول الأفريقية في 2022 نحو 18 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، تقدم روسيا الدعم العسكري للعديد من الدول الأفريقية من خلال بيع الأسلحة وتقديم التدريب العسكري.
يمكن رؤية بعض التشابهات بين الصراع الحالي على أفريقيا واتفاقية برلين لعام 1885. كلاهما يعكسان اهتمام القوى الكبرى بالموارد الطبيعية الأفريقية ومحاولات السيطرة عليها لتحقيق مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. كما أن كلا الفترتين تشهدان تهميشًا للسكان الأصليين وعدم مراعاة حقوقهم في الاستفادة من ثروات.
مع ذلك فإن هناك اختلافات جوهرية بين الفترتين. في القرن التاسع عشر، كانت القوى الاستعمارية تتعامل مع أفريقيا كوحدة متجانسة تسعى إلى تقسيمها بشكل مباشر بينهما. في المقابل، الصراع الحالي يتميز بتعدد الأطراف الفاعلة وتنافسها على النفوذ بطرق مختلفة، بما في ذلك الاستثمار الاقتصادي والدعم العسكري والدبلوماسي. بالإضافة إلى ذلك، الدول الأفريقية اليوم لديها سيادة واستقلال سياسي، وارتفاع في الوعي الشعبي مما يعطيها بعض القدرة على التفاوض والتأثير في تحديد مصيرها.
لكن الإجابة على سؤال المقال ستكشفه الأيام والشهور القادمة.
0 تعليق