جائزة أنسنة المدن واستنطاق المكان!

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
سررت في الأسبوع الماضي بحضور حفل جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن في دورتها الثانية والمقامة في جامعة الملك سعود ممثلة في كلية العمارة والتخطيط. الجائزة تهدف إلى دعم البحث العلمي والمشاريع العمرانية الرائدة والتي تبتكر حلولا خلاقة في مجال "أنسنة المدن".

تتناول الجائزة أربعة مجالات هامة أولا، تحفيز النشر العلمي بما في ذلك تأطير ومعالجة قضايا أنسنة المدن السعودية. ثانيا، مشاريع طلاب وطالبات الدراسات العليا، وتتضمن معالجات موضوعية وتصاميم تأخذ في عين الاعتبار الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لمدن المملكة العربية السعودية. ثالثا، مشاريع البكالوريوس وهي مخصصة للمشاريع الطلابية التي تعالج وتبتكر حلولا لحالات دراسية من الناحية التخطيطية أو التصميمة للمدن السعودية. رابعا، المنح البحثية وهي مخصصة لدعم البحث والابتكار وتعزيز النشر العلمي لسد الفجوة البحثية في مجال أنسنة المدن.

الجائزة بحد ذاتها عامل محفز للعديد من الباحثين والطلاب لتوجيه مسار البحوث والمشاريع العمرانية بشكل يخدم مجال أنسنة المدن السعودية. إن مفهوم أنسنة المدن أصبح توجها استراتيجيا يتوافق مع مستهدفات الرؤية السعودية الرامية إلى خلق مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح. لقد أشار سمو الأمير عبدالعزيز بن عياف إلى تعريف جامع لمفهوم أنسنة المدن باعتبارها "تعزيز البعد الإنساني في المدن، تمثل التحول من المكان الصامت إلى المكان الفاعل الذي تنتج فاعليته من تشكله في نسيج عمراني، ييسر للإنسان صنع مسيرته الشخصية، ويحقق للجماعة تشكيل هويتها الاجتماعية". هذا التعريف الجامع يأخذ في عين الاعتبار فهم العلاقة بين المكان والإنسان، فتحويل المكان الصامت إلى مكان فاعل لا يأتي إلا من خلال فهم احتياجات الإنسان والتي على أساسها يتشكل المكان، ويأخذ دوره الفاعل في تيسير حياة الأفراد والمجتمعات لصناعة هويتها والارتقاء بمعيشتها.

إن مفهوم أنسنة المدن لا يمكن قصره على بعد إنساني واحد، فمن الملاحظ أن بعض الباحثين يختزل مفهوم الأنسنة بتوفير احتياجات المشاة أو تعزيز جاذبية المكان أو جعل الفراغ العمراني آمنًا ومناسبًا للمشي دون تداخل مباشر مع حركة الآليات. بعبارة أخرى، اختزال مفهوم أنسنة المدن كمفهوم نقيض للسلبيات الناتجة من التحول المفرض في استخدام المركبات. أرى أن هذا التصور مُجحف في حق المفهوم الواسع لأنسنة المدن، فتحويل "المكان الصامت" إلى "مكان فاعل" يقتضي فهم الأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئة وعلاقتها بمستخدمي المكان. هذا التحول يعني استيعاب البعد التشريعي والقانوني وعلاقه أصحاب المصلحة بالمكان، بعبارة أخرى، لا يمكننا صناعة مكان فاعل دون أن نستوعب أهداف هذا التحول والإجراءات المتبعة وصولاً لبناء إطار عمل قادر على تفعيل المكان.

أذكر أن أمانة مدينة الرياض في عام 1997م كانت سباقة في تطبيق مفهوم أنسنة المدن من خلال فعاليات وبرامج كانت قادرة على استنطاق المكان لمدينة الرياض، باعتبارها مدينة حيوية فاعلة بالنشاطات الإنسانية. قُدمت مسرحيات وفعاليات ثقافية واحتفالات لامست احتياجات أفراد المجتمع كافة، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن حتى المعاقون، واستمرت لأكثر من عقد. هذه الأنسنة لم تكن مجرد كرنفالات عابرة أو منشآت عمرانية مؤقتة كما يعتقد البعض؛ بل إجراءات معقدة تطلبت فهم المزاج الاجتماعي، وآليات التمويل المالي، والإدارة الفاعلة، والقدرة على التفاوض مع أصحاب المصلحة كافة.

ختاما، فإن تحليل وتوثيق هذه التجارب في بحوث أو دراسات عمرانية كفيل لفهم الفجوات والتحديات التي صاحبتها وصولاً لابتكار نماذج وحلول رائدة؛ ومن هنا تتجلى أهمية جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق