من سيحكم سوريا ويتصدى لتوغل إسرائيل؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الجمعة 13/ديسمبر/2024 - 02:24 م 12/13/2024 2:24:14 PM

انتشار القوات الإسرائيلية في المنطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان، وسيطرتها على الجانب السوري من جبل الشيخ، وضرباتها على أهداف عسكرية سورية، ربما تكون أول التغييرات التي تحدث في الخريطة السورية خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.. لكن إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي بدأت في إعادة التموضع في مواجهة سوريا لصالحها العسكري، وأصبحت قواتها على بعد تسعة عشر كيلو مترًا فقط من العاصمة دمشق.. بل إن الميليشيات الموالية لتركيا التابعة للجيش الوطني السوري ـ الذي كان في الأصل جيش سوريا الحر، وهو أول وأكبر الميليشيات التي تشكَّلت في بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011 ـ أعلنت أنها سيطرت على (منبج)، وهي مدينة تقع غرب نهر الفرات.. وتستضيف هذه المدينة تجمعًا كبيرًا للقوات الكردية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية، وتُشكِّل قلب خطة تركيا، للسيطرة على المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا، وإقامة منطقة أمنية داخل الأراضي السورية.. وفي هذه الأثناء، سيطرت ميليشيات وقوى شعبية غير مُنظمة على بلدتي السويداء ودرعا في جنوب سوريا، ومنطقة القنيطرة على الجانب السوري من مرتفعات الجولان، ومن المرجح أن تُطالب بنوع من (الحكم الذاتي) للمناطق الخاضعة لسيطرتها، بدعم من إسرائيل.. ومع تطور الأحداث، تتحول سوريا إلى (بلد الإمكانات غير المحدودة) بالنسبة لجميع القوى المسلحة المشاركة، سواء داخل سوريا أو خارجها، والتي تحاول جميعها السيطرة على الأراضي والأصول العسكرية، لخلق حقائق على الأرض، قبل أن يتمكن أي نظام مركزي في دمشق، من إنشاء دولة موحدة وحكومة مُتفق عليها بشكل مُتبادل.
أمر زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني ـ الذي تخلى عن اسمه الحربي وعاد إلى اسمه الحقيقي، أحمد حسين الشرع ـ مُقاتليه بعدم المساس بالمباني الحكومية وحماية الممتلكات العامة.. وقال إنه يجب عليهم الامتناع عن الانتقام من قوات أمن نظام الأسد والمدنيين الذين تعاونوا معه، وخصوصًا أعضاء الطائفة العلوية.. ومع ذلك، يبدو أن سيطرته على غضب مُقاتليه ورغبتهم في تصفية الحسابات، محدودة.. بدليل، إعدام تنظيم داعش الإرهابي العشرات من القوات السورية، التي فرت مع سقوط نظام بشار الأسد.. إذ كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن داعش أعدم أربعة وخمسين عنصرًا من القوات السورية، أثناء فرارهم في بادية حمص وسط سوريا، تزامنًا مع سقوط الأسد، حيث اعتقلت خلايا التنظيم العناصر الفارّين من الخدمة العسكرية في البادية ودير الزور.. وكانت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية، سابرينا سينج، قالت (قلقون من عودة نشاط داعش في سوريا ونواصل التصدي لذلك).
إن القياسات التاريخية خطيرة وعرضة للخطأ.. ولكن من المستحيل ألا نتذكر الصور الصعبة التي رافقت الأيام الأولى للهجوم على العراق عام 2003.. فقد اقتحمت حشود من الناس الوزارات الحكومية، وقُتِل المئات من أعضاء حزب البعث انتقامًا على أيدي العصابات والمدنيين العاديين، ونُهِب المتحف الوطني، وانفجرت موجة من الجريمة، حتى قبل تأسيس تنظيم القاعدة في العراق.. وأنتجت ليبيا فظائعها الخاصة بالإطاحة بمعمر القذافي وقتله، حيث اندلعت صراعات قاتلة على السلطة بين القبائل والعائلات، والتي تطورت إلى صراعات سياسية وعسكرية، استمرت في إحباط إنشاء دولة موحدة وفعّالة.. وفي سوريا، تتوفر كل المكونات اللازمة لوصفة مُماثلة.
كان لدى الجولاني خطة عسكرية فعَّالة، يقول إنها كانت جاهزة على مدى أشهر وربما سنوات.. وكان يعرف كيف يستغل الخطأ الاستراتيجي الروسي، الذي سمح بتطور تجمعات كبيرة من المسلحين في إدلب، من بلدات ومدن في مختلف أنحاء سوريا، كجزء من عملية (المصالحة) التي أملتها موسكو على قوات المتمردين المحلية.. كانت الاستراتيجية الروسية تتلخص في حصار مدينة أو محافظة ينشط فيها مسلحون، وعرض نزع سلاحهم أو نقله إلى إدلب.. وكانت النتيجة أن عشرات الآلاف من المقاتلين من مختلف أنحاء سوريا، ومن خلفيات مختلفة، وجدوا أنفسهم مجتمعين في منطقة واحدة، يبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة.. وهذا مكَّن الجولاني من تطوير قاعدة دخل، تمكنه من تمويل أنشطته المسلحة، وتسليح نفسه بأسلحة أكثر تطورًا، وإدارة المنطقة باعتبارها (حكومة إنقاذ) مع خمس مجموعات مسلحة رئيسية أخرى.
الجولاني، الذي كان يحظى بدعم تركي، وفي حالة بعض الميليشيات بتمويل قطري، كان ماهرًا في قراءة الخريطة السياسية، التي ظهرت نتيجة لحرب غزة، واختار توقيت هجومه بشكل صحيح، أي اليوم الذي دخل فيه وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان حيز التنفيذ.. ولكن، من أجل ترسيخ نفسه كزعيم بلا منازع لميليشيات إدلب، شن حربًا وحشية ضد منافسيه.. وعلاوة على ذلك، اضطر خلال العام الماضي إلى التعامل مع الاضطرابات المدنية في المحافظة، بما في ذلك الاحتجاجات الجماهيرية ضد الفساد الحكومي، والضرائب الباهظة المفروضة على الناس والشركات، وإلحاق الضرر بالممتلكات الخاصة والاعتداءات على الأقليات.. ومع ذلك، فإن حكم مقاطعة لا يُشبه إدارة بلد مُعقد ومُنقسم ومُثقل بأعباء ثقيلة من الماضي.. إن هذه الأعباء لا تقتصر على النظام الذي قتل أكثر من نصف مليون من مواطنيه وحول نحو إحد عشر مليون إنسان إلى لاجئين ونازحين، بل تشمل أيضًا الصراعات بين مجموعات سكانية مختلفة.. العلويون ضد السنة، والأكراد ضد العلويين، والنخب ضد الجماهير وسكان المدن الذين جُرِدوا من ممتلكاتهم.. كما نشأت خصومات حادة بين جماعات المعارضة المدنية، مثل تلك التي بين حكومة الجولاني والحكومة المؤقتة التابعة لائتلاف قوى المعارضة.. وهناك تنافس آخر بين هذه الجماعات والحكومة الكردية المُستقلة، التي تأسست في الجزء الشمالي من البلاد.
لنجد أنفسنا الآن أمام هنا السؤال الأهم: من سيُدير البلاد؟.
من الناحية النظرية، فإن من يحمل السلاح، أي الجولاني، هو من يحدد شكل الحكم في سوريا الجديدة.. ولكن في سوريا، الجميع يحمل السلاح؛ ولا حاجة إلى تنظيم ميليشيات مثل هيئة تحرير سوريا، لتعطيل عمل إعادة البناء السياسي.. لقد شهدت سوريا والعراق واليمن والسودان، وعشرات الأماكن الأخرى، تاريخًا داميًا في النضال من أجل بناء الدولة.. وفي سوريا، يجب بناء الدولة من الصفر.. ويكشف استعراض المقابلات والمحادثات التي أجراها الجولاني على مر السنين، أنه على الرغم من تصميمه وثقته في قدرته على الإطاحة بالنظام، إلا أنه لم يضع خطة سياسية أو دستورية أو اقتصادية لاستعادة الدولة بعد الأسد.. وعلى سبيل المثال، لا يزال مصير الجيش والشرطة والقضاء في سوريا غير واضح.. وهل سيتم حل البرلمان؟.. وهل ستُعقد انتخابات، ومتى؟.. وكيف سيتم تمويل ميزانية الدولة؟.
لقد صرح الجولاني قبل بضعة أيام، أنه مستعد لحل ميليشياته بعد انهيار حكومة الأسد.. وهذا تصريح مُشجع صادر عن شخص يحاول التخلص من صورة المُتعصب الإسلامي، الذي يثير الشكوك والقلق، وحتى الرعب بين جمهور سوري كبير، تلقى تعليمه في حزب البعث العلماني.. ولكن، كما يعلم الساسة في العراق أو لبنان أو ليبيا، فإن الميليشيات الخاصة تشكل ملحقًا أساسيًا لأولئك الذين يريدون التأثير، ناهيك عن الحكم.. والسؤال الحاسم الذي قد يؤثر بالفعل على شخصية سوريا واتجاهها السياسي، هو المال للحكومة.. فسوريا دولة مُفلسة.. فقد هبطت قيمة الليرة السورية الآن، إلى ما بين 46% في دمشق، و65% في حلب.. والميزانية الحالية مجرد قطعة ورق عديمة الفائدة.. والاستثمار الأجنبي الوحيد الذي يجري الآن، هو من قِبَل الشركات الإيرانية التي استحوذت على أصول، في إطار سداد جزئي للديون التي تراكمت على سوريا لإيران، والتي تجاوزت الثلاثين مليار دولار.. وخط الائتمان الإيراني لن يكون موجودًا بعد الآن، والعقوبات الأمريكية والدولية المفروضة على سوريا، تمنع الاستثمار من الغرب، والنظام المصرفي إنهار.. والحقول النفطية التي كانت تحت سيطرة الأكراد، والتي من الواضح أنها ستعود إلى الحكومة، سوف تتطلب استثمارات كبيرة لإنعاشها.. وهكذا، فإن القيود الاقتصادية هي التي قد تحدد الاتجاه الذي قد تتجه إليه سوريا.. وباعتبارها (دولة الإمكانات غير المحدودة) المُتحررة من قبضة إيران وروسيا، فإن دمشق قد تنفتح على دول المنطقة والغرب، التي كانت، حتى الآن، تراقب من على الهامش وتتابع التطورات عن كثب.
لم يكن بوسع الدول العربية أن تمنع الأسد من ارتكاب المجازر ضد شعبه، ولم تتحرك ضد النظام المُروِّع، باستثناء الإدانات الحادة والعقوبات التي لم تُغير سلوك الأسد حقًا.. وعلاوة على ذلك، نجحت الدول العربية في العام الماضي في إعادة الأسد إلى صفوفها.. وحتى في الآونة الأخيرة، فكرت العديد من الدول الأوروبية في تطبيع العلاقات مع النظام، وقدمت سورية باعتبارها (مكانًا آمنًا)، حتى تتمكن من إعادة ملايين اللاجئين إلى ديارهم.. ولكن مثل بقية دول العالم، لم تكن هذه الدول مستعدة لهجوم المتمردين.. ونظرًا لخبرتها المريرة في إعادة (بناء الأمة) في أفغانستان أو العراق أو ليبيا، فمن الممكن أن نفهم موقف (المراقب) الذي تتبناه الآن.. والمشكلة هي، أنها لن تتمكن من ممارسة أي تأثير على تشكيل النظام الجديد في سوريا، انطلاقًا من هذا الموقف.
لقد أدركت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال ـ بعد فوات الأوان كثيرًا ـ أنها خسرت العراق لصالح إيران، قبل أن تعيد إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع بغداد.. وكان بوسع الولايات المتحدة أن تساعد لبنان على الخروج من أزمته الاقتصادية العميقة، لو سمحت لمصر والأردن ببيع الكهرباء إليه، وهو ما حُرِمَ منه، فقط لأن خط النقل كان يمر عبر سوريا.. ويبقى أن النفوذ الاقتصادي الذي قد تتمتع به دول الخليج الغنية، والدول الغربية في سوريا، ليس مجرد فرصة تجارية أو سياسية.. بل إنه مرتبط بشكل مباشر بالأمن الإقليمي، الذي يتطلب حُكمًا فعالًا ومستقرًا، نظرًا للخطر الذي يُشكله نظام الميليشيات المُنغمس في حرب العصابات، التي يمكن أن يتطور بسهولة في سوريا.
●●●
تتغير صورة سوريا ـ المتغيرة أصلًا ـ كل ساعة تقريبًا، حيث تعمل القوى التي تُمزق البلاد إلى قطع، على إعادة تشكيل حدود سيطرتها.. وربما يكون من المستحيل، وقف العملية التي بدأت بالفعل، والتي تنهار فيها سوريا إلى مناطق تتمتع بالحكم الذاتي، أو حتى مُستقلة تسيطر عليها ميليشيات متنافسة وعصابات محلية.. حاول الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على مدار العام الماضي تشجيع الأسد على التفاوض مع المتمردين، من أجل وقف انهيار سوريا، ولكن دون جدوى.. وحتى بعد بدء هجوم المتمردين، اقترح إردوغان مرة أخرى إجراء مفاوضات، لكن اقتراحه قُوبل بالرفض أيضًا، عندما اشترط الأسد إجراء المحادثات بانسحاب تركي كامل من جميع الأراضي السورية.. ظاهريًا، يمتلك إردوغان الآن ورقة مساومة قوية، باعتباره الحليف والراعي المالي ومورِّد الأسلحة للتحالفين الرئيسيين للمتمردين.، وهما الجيش الوطني السوري، المعروف سابقًا باسم الجيش السوري الحر، والذي اندمج في صفوفه ميليشيات صغيرة؛ وهيئة تحرير الشام، التي خططت وأطلقت الهجوم.. وتتضمن أدوات الضغط التي يستخدمها إردوغان، التهديد بوقف خط التمويل وإغلاق المعابر الحدودية التركية ـ السورية، التي تُعد أحد المصادر الرئيسية للدخل لهذه الميليشيات.
لكن التطورات في الأيام العشرة الماضية غيَّرت من ثقل النفوذ التركي، فقد استولت ميليشيات الجولاني على مخازن أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية أخرى تابعة للجيش السوري، وتراجع اعتمادها على الأسلحة المستوردة.. وبالإضافة إلى ذلك، ومنذ تركيزهم على تواجدهم في إدلب على مر السنين، بدأوا في إنتاج أسلحتهم الخاصة، والطائرات بدون طيار، والمركبات المدرعة.. فضلًا عن ذلك، سيحاول الجولاني تحويل الانتصارات السريعة في ساحة المعركة إلى مكاسب سياسية لنفسه، وليس هناك ما يضمن أنه سوف يُطيع تركيا في نهاية المطاف.. وفي الوقت نفسه، أمر قواته (بالتصرف باحترام) تجاه الجنود السوريين الأسرى ومع المتعاونين معهم، وقال إن مؤسسات الحكومة السورية ستظل تحت سيطرة رئيس الوزراء، محمد غازي الجلالي، حتى التغيير الرسمي للنظام.. كما أصدر رجاله (شهادات حماية)، لكبار المسئولين السوريين الذين عملوا لدى النظام، والتي من المفترض أن تحميهم من الأذى إذا تم القبض عليهم، من أجل إثبات أنه ليس انتقاميًا.
وباعتباره شخصية معروفة كإسلامي مُتطرف، يثير الخوف والقلق من أنه يخطط لإقامة دولة الشريعة الصارمة في سوريا، فقد أطلق الجولاني تصريحات تصالحية في الأيام القليلة الماضية، ووعد بحماية واحترام جميع الأقليات الدينية والعرقية في البلاد.. وكبديل للأسد، لا يستطيع الجولاني أن يستمر في رؤية إيران وروسيا والميليشيات التابعة لهما كشركاء محتملين، ولكن حتى الافتراض بأنه في جيب تركيا، سيتطلب ذلك إثباتًا على الأرض.. وباعتباره (زعيم كل السوريين)، فسوف يتعين عليه التعامل مع معارضين محليين جادين، بما في ذلك الميليشيات المتنافسة، مثل تلك الموجودة في درعا والسويداء، والتي وقفت في الصفوف معه الآن، في محاولة للإطاحة بالنظام، ولكن أيضًا مع القوات الكردية، التي استولت بسرعة على المزيد من الأراضي في شمال شرق البلاد، خلال عطلة نهاية الأسبوع، بعد أن سيطرت القوات الكردية على محافظة دير الزور ومعبر البوكمال الحدودي، وخاضت مواجهات عنيفة خلال الأيام القليلة الماضية مع القوات التركية، التي تحاول بدورها السيطرة على منبج، إحدى النقاط الكردية المهمة غرب نهر الفرات.
إن الاتحاد بين الأكراد وقوات هيئة تحرير الشام، سيتطلب من الجولاني التوفيق بين رغبة الأكراد في حماية حكمهم الذاتي، ورغبة تركيا في دفعهم لمسافة عشرين إلى ثلاثين كيلو مترًا بعيدًا عن حدودها.. فهل توافق تركيا على أن تمنح (ميليشياتها) الأكراد انتصارًا على حساب ما تعتبره تهديدًا لأمنها القومي؟.. وهل يوافق الجولاني، الذي يسعى إلى إحاطة نفسه بدعم وطني ساحق، على أن تواصل تركيا شن الحرب ضد الأكراد، بينما يسعى هو إلى تشكيل ائتلاف حاكم معهم؟.
وعلى النقيض من تركيا، التي تمتلك بدائل دبلوماسية قد تمنحها نفوذًا أكبر بكثير في سوريا مما سمح به الأسد، فإن خيارات إيران من المُرجح أن تتبخر.. ولن يتم فقدان المليارات من الدولارات التي قدمتها إيران للأسد، في صورة ائتمان ونفط وأسلحة فحسب، بل إن الموقع الاستراتيجي لسوريا، باعتبارها شريان الحياة لوكيل إيران في لبنان، وربما وكيلها الأكثر أهمية، سوف يتوقف عن الوجود.. ورغم أن سوريا في عهد حافظ الأسد، والد بشار، كانت الدولة العربية الوحيدة التي ساندت إيران، وليس العراق، في الحرب العراقية ـ الإيرانية، إلا أن حافظ الأسد كان يعرف دومًا ضرورة الحفاظ على مسافة آمنة، خوفًا من محاولات طهران الاستيلاء على دمشق.. كما أن إيران لم تعتبره أبدًا رجلها في سوريا.. حتى أن المرشد الأعلى الإيراني آنذاك، آية الله روح الله الخميني، قال، إن حافظ الأسد لم يكن شيعيًا حقيقيًا، بل كان علمانيًا كافرًا.. ورغم أن بشار الأسد كان يُنظَر إليه، على أنه شخص حوّل سوريا إلى (ولاية إيرانية أخرى)، كما قال أحد كبار علماء المسلمين في إيران قبل سنوات، فإنه كان أيضًا حريصًا على عدم الانضمام إلى حلقة النار، أو المشاركة في اتحاد الجبهات.
لقد نجح الأسد في منع هجمات قوات القدس ضد إسرائيل من الأراضي السورية، وتجاهل الهجمات الإسرائيلية التي كانت موجهة ضد أهداف إيرانية، وقوافل أسلحة ومنشآت حزب الله في سوريا.. وعلى الرغم من المساعدات الضخمة التي قدمتها له إيران في الحرب الأهلية، فإن نصيبها من الغنائم الاقتصادية كان أقل بكثير من نصيب روسيا.. وبالمقارنة بالنفوذ الإيراني المشروط في سوريا، فإن لبنان يُشكل قصة مختلفة.. ففي لبنان، منح حزب الله إيران حتى الآن سيطرة مباشرة وغير محدودة تقريبًا.. صحيح أن الضربة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، أجبرت إيران على الموافقة على ما تراه شروطًا قاسية، منصوصًا عليها في اتفاق وقف إطلاق النار، ورغم أن الاتفاق ينص على أن لبنان لابد أن ينزع سلاح حزب الله، فإن الاستعداد لتطبيق هذا البند ضئيل، إن وجد.. علاوة على ذلك، فإن حزب الله، كمنظمة وحركة وقوة مؤثرة في السياسة اللبنانية، لا يزال حيًا ويضرب، وهو يحافظ على نفوذ إيران في لبنان.. ولكن، إذا كانت الحرب في سوريا ستؤدي إلى تقليص مكانة إيران هناك، أو حتى القضاء على قواتها وقواتها وحزب الله، فإن الانقطاع الجغرافي بين حزب الله ومصادره اللوجستية العسكرية، سيكون له تأثير كبير على قدرته على التعافي كمنظمة عسكرية.
وأمام فرصة تحرير سوريا من نظام الأسد والوجود الإيراني، أصبحت الدول العربية ـ التي عرضت معظمها الدعم والمساعدة على الأسد، وإن لم يكن بالسلاح أو الجنود ـ تشعر بالقلق الآن بشأن البدائل.. عندما تستولي الميليشيات على بلد ما، بغض النظر عن أيديولوجيتها، فإنها تُهدد الأنظمة التقليدية، التي تعتمد على السيطرة القوية.. ومثل هذا النجاح، كما رأينا في الربيع العربي، مُعدٍ، ويشجع على إحياء المنظمات والحركات المتمردة.. ورغم أن الحركات التمردية نجحت في إسقاط الأنظمة في بعض البلدان، لكنها عادت إلى الاستبداد، فإن بلدانًا أخرى، مثل اليمن وليبيا والسودان، سقطت في حروب أهلية مزقتها.. لكن التحدي المباشر في سوريا، سوف يعتمد على طبيعة النظام الذي سيتم إنشاؤه في دمشق، ومن سيكون في مرمى نيرانه.. وعلاوة على ذلك، مهدت الثورة السورية عام 2011، الطريق أمام تنظيم الدولة الإسلامية، لاحتلال أجزاء من سوريا والعراق، وهناك بالفعل تقارير تفيد بأن تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا استأنف نشاطه، في بعض المناطق التي تراجع عنها النظام.. وإذا كان هذا هو البديل، فربما كان بقاء الأسد في السلطة ليظل يُنظَر إليه باعتباره ثمنًا معقولًا.
●●●
ثمنٌ هنا وثمنٌ هناك، والذي يدفع الفاتورة في الحالين هو الشعب السوري، الضحية في كلا الوقتين!.
من منزله في فرنسا، يتابع د. عمر الخطيب، أستاذ الإعلام، الذي زاملته التدريس لفترة بجامعة الملك سعود بالرياض ـ وهو أحد سكان مدينة درعا في جنوب سوريا ومعارض لنظام بشار الأسد، وغادر سوريا نهاية عام 2013، مع زوجته وأولاده عندما تفاقمت الأزمة في البلاد ـ التطورات في وطنه بقلق شديد.. ويقول إن المأزق الحالي الذي تعيشه سوريا هو نتيجة النظام الذي ترأسه الأسد، والذي قاتل شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية لأكثر من ثلاثة عشر عامًا.. هذه ليست مباراة كرة قدم، حيث يتعين علينا أن ندعم فريقًا ضد فريق آخر، بل هي مأساة مستمرة.. والضحية الرئيسية هي الشعب السوري، الذي سيستمر في دفع الثمن، سواء على يد الأسد أو على يد مقاتلي جبهة النصرة ـ في إشارة إلى هيئة تحرير الشام التي كانت مرتبطة بتنظيم القاعدة في سوريا ـ وفي الوقت نفسه، أعرب عن قلقه إزاء استيلاء المتمردين على المدن الكبرى، (كان بعضهم ناشطًا في تنظيم القاعدة في الماضي، وهم ليسوا أقل من المجرمين.. وبعضهم لديه معتقدات متطرفة، من شأنها أن تهدد الجماعة والتنوع العرقي في سوريا).. وحتى قبل أنباء سقوط الأسد، قال، (إن المتمردين سيدفعون البلاد إلى حرب أهلية عرقية، أسوأ حتى مما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين).
(أستطيع أن أفهم السوريين الذين يؤيدون الثوار.. كان من المفترض أن يكونوا أساتذة أو أدباء أو مثقفين أو أطباء.. لكن الحرب أخذت منهم كل شيء.. هذا الغضب ضد النظام موجود منذ اندلاع الحرب.. وفي رأيي، توقيت الهجوم ليس مصادفة، وقد حدث عندما وجدوا فرصة لذلك)، قال الخطيب.، الذي يشعر بالقلق على عائلته المتبقية في سوريا، وخصوصًا في مدن درعا وحمص ودمشق، (ما يحدث في سوريا مخيف للغاية، ولن يضمن بالضرورة مستقبلًا أفضل، كما يدَّعي المتمردون ويتوقعونه.. السجناء الذين تم إطلاق سراحهم للتو من السجن المركزي في حماة ودير الزور، ليسوا جميعهم سجناء سياسيين، والناس ينسون ذلك.. صحيح أن هناك من تم اعتقالهم لأنهم كانوا معارضين للنظام، ولكن هناك أيضًا مجرمون وقتلة، والآن أصبحوا جميعًا أحرارًا، وهذا يخلق فوضى اجتماعية، ويشكل خطرًا على السكان المدنيين).
وقد أعرب سكان المدن السورية عن مشاعر الارتباك والحيرة التي انتابتهم، (في الصحافة المعارضة لنظام الأسد، يذيعون انتصار المتمردين على المدن باعتباره ـ تحريرًا، ولكن في الممارسة العملية، يتم استبدال النظام بميليشيات دينية متطرفة.. المناطق التي تم الاستيلاء عليها حتى الآن مدمرة على أي حال، وبعض سكانها لاجئون في بلدان أخرى.. المتمردون لا يؤمنون بالقيم الليبرالية أو الديمقراطية، الدين هو الذي يوجههم)، ليبقى سؤال السكان: ما هي خطة المتمردين الذين يتحركون الآن بعد التحرير؟.. ومن هم داعموهم؟.. وهل هم قادرون على إقامة حكومة بديلة؟.. هذه أسئلة تثير الشكوك حول ما إذا كان هناك تغيير إيجابي في سوريا.. تتعامل سوريا مع ثلاثة احتلالات على الأرض: إيرانية وتركية وروسية، بالإضافة إلى الاحتلال الجوي، مع مهاجمة إسرائيل لمناطق من البلاد.. سقوط نظام الأسد لن يغير المشكلة الأساسية، وذلك لعدم وجود إطار سياسي لمعالجة الانقسامات العميقة بين جماعات المعارضة، (بعض هذه الجماعات تنتمي إلى المسلمين السُنة السوريين، ولكن هناك أيضًا أكراد وفصائل تتألف من أشخاص أصلهم من العراق، لجأوا إلى سوريا، وانضموا الآن إلى صفوف المتمردين.. إنها فوضى تخلق أرضًا خصبة لحروب مستقبلية).
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق