هل يتحول الميليشياوي إلى رجل دولة؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

السبت 14/ديسمبر/2024 - 11:45 ص 12/14/2024 11:45:57 AM


تخلى زعيم المعارضين السوريين، أبو محمد الجولاني، عن الاسم الحربي المرتبط بماضيه الجهادي، واستخدم اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، في البيانات الرسمية الصادرة منذ يوم الخميس، قبل سقوط حكم بشار الأسد.. هذه الخطوة هي جزء من جهود الجولاني لتعزيز شرعيته في سياق جديد، حيث أعلنت هيئة تحرير الشام، جماعته الإسلاموية المسلحة، التي تقود فصائل المعارضة الأخرى، الاستيلاء على العاصمة السورية دمشق، وتعزيز سيطرتها على جزء كبير من البلاد.. كما أن تحول الجولاني ليس أمرًا حديثًا، ولكنه تطور بعناية على مر السنين، وهو واضح، لا في تصريحاته العامة ومقابلاته الدولية فقط، ولكن أيضًا في مظهره المتغير.
تخلى الجولاني تدريجيًا عن ملابس المقاتلين الجهاديين التقليدية، وخلع  العمامة التي كانت تميزه خلال بدايات الحرب، ليرتدي بدلًا منها زيًا عسكريًا وأحيانا زيًا مدنيًا، وحدَّث خزانة ملابسه لتصبح (أكثر غربية) في الفترة الماضية.. والآن، بينما يقود الهجوم، ارتدى ملابس عسكرية، ترمز إلى دوره كقائد لغرفة العمليات، متشبهًا بالرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بعد أن قص شعره وخفَّف من كثافة لحيته، وهي أمور تشي بأن هناك من يقف وراء الرجل، ويُهيمن على صناعة صورته الجديدة، منذ فترة، استعدادًا لما هو قادم في سوريا.. فمن هو الجولاني، أو أحمد الشرع؟.. ولماذا وكيف تغيَّر؟.
كشفت مقابلة مع الجولاني على قناة PBS، عام 2021، أنه ولد عام 1982 في المملكة العربية السعودية، حيث عمل والده مهندسًا للنفط حتى عام 1989.. وفي ذلك العام، عادت عائلة الجولاني إلى سوريا، حيث نشأ وعاش في حي المزَّة بدمشق.. وبدأت رحلة الجولاني كجهادي في العراق، مرتبطًا بتنظيم القاعدة هناك، سلف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الذي انضم إليه في وقت لاحق.. وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، انضم إلى مقاتلين أجانب آخرين في العراق.. وفي عام 2005، سُجن في معسكر بوكا، حيث عزز انتماءاته الجهادية، ثم تعرف لاحقًا على أبو بكر البغدادي، الرجل الهادئ الذي سيقود تنظيم الدولة لاحقًا.. وفي عام 2011، أرسل البغدادي الجولاني إلى سوريا لإنشاء جبهة النصرة، وهي فصيل سري مرتبط بتنظيم الدولة.. وبحلول عام 2012، أصبحت جبهة النصرة قوة قتالية سورية بارزة، تخفي علاقاتها بتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة.
نشأت التوترات عام 2013، عندما أعلنت جماعة البغدادي في العراق من جانب واحد، اندماج المجموعتين (دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة)، معلنة إنشاء الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وكشفت علنًا ـ لأول مرة ـ عن الروابط بينهما.. قاوم الجولاني القرار، لأنه أراد أن ينأى بمجموعته عن تكتيكات دولة العراق الإسلامية، مما أدى إلى الانقسام.. وللخروج من هذا الموقف الشائك، تعهد الجولاني بالولاء لتنظيم القاعدة، وجعل جبهة النصرة فرعها السوري.. ومنذ البداية، أعطى الأولوية لكسب الدعم السوري، ونأى بنفسه عن داعش وأكد على نهج أكثر براجماتية للجهاد.. وفي إبريل 2013، أصبحت جبهة النصرة فرعًا سوريًا لتنظيم القاعدة، مما جعلها على خلاف مع تنظيم الدولة الإسلامية.. وفي حين كانت خطوة الجولاني، محاولة جزئية للحفاظ على الدعم المحلي وتجنب تنفير السوريين والفصائل المعارضة، فإن الانتماء إلى تنظيم القاعدة لم يفعل في نهاية المطاف الكثير لصالح هذا الجهد.. وقد أصبح تحديًا مُلحًا في عام 2015، عندما استولت جبهة النصرة وفصائل أخرى على محافظة إدلب، مما أجبرها على التعاون في إدارتها.. وفي عام 2016، قطع الجولاني علاقاته بتنظيم القاعدة، وأعاد تسمية الجماعة باسم جبهة فتح الشام، ثم هيئة تحرير الشام عام 2017.
وبينما بدا الانقسام سطحيًا في البداية، كشف عن انقسامات أعمق.. واتهم تنظيم القاعدة الجولاني بالخيانة، مما أدى إلى الانشقاقات وتشكيل (حُراس الدين)، وهو فرع جديد لتنظيم القاعدة في سوريا، والذي سحقته هيئة تحرير الشام لاحقًا عام 2020.. ومع ذلك، ظل أعضاء (حُراس الدين) حاضرين بحذر في المنطقة.. كما استهدفت هيئة تحرير الشام عملاء تنظيم الدولة والمقاتلين الأجانب في إدلب، وفككت شبكاتهم وأجبرت بعضهم على الخضوع لبرامج (إزالة التطرف).. وأشارت هذه التحركات، التي تم تبريرها على أنها جهود لتوحيد القوى المسلحة والحد من الاقتتال الداخلي، إلى استراتيجية الجولاني لوضع هيئة تحرير الشام، كقوة مهيمنة وقابلة للاستمرار سياسيًا في سوريا.. ورغم الانفصال العلني عن تنظيم القاعدة وتغيير الاسم، استمرت الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى، في تصنيف هيئة تحرير الشام كـ (منظمة إرهابية)، وحافظت الولايات المتحدة على مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكان تواجد الجولاني.. واعتبرت القوى الغربية الانفصال مجرد واجهة.
تحت قيادة الجولاني، أصبحت هيئة تحرير الشام القوة المهيمنة في إدلب، أكبر معقل للمعارضين في شمال غرب سوريا، وموطن لحوالي أربعة ملايين شخص، كثير منهم نزحوا من محافظات سورية أخرى.. ولمعالجة المخاوف بشأن وجود جماعة مسلحة تحكم المنطقة، أنشأت هيئة تحرير الشام جبهة مدنية، تسمى (حكومة الإنقاذ السورية) عام 2017، كذراع سياسي وإداري لها.. وعملت حكومة الإنقاذ السورية كدولة، مع رئيس وزراء ووزارات وإدارات محلية، تشرف على قطاعات، مثل التعليم والصحة وإعادة الإعمار، مع الحفاظ على مجلس ديني يسترشد بالشريعة الإسلامية.
ولإعادة تشكيل صورته، انخرط الجولاني في أنشطة تقربه من الجمهور، وزار مخيمات النازحين، وحضر الفعاليات، وأشرف على جهود الإغاثة، وخصوصًا خلال الأزمات، مثل زلازل عام 2023.. وسلّطت هيئة تحرير الشام الضوء على الإنجازات في الحكم والبنية التحتية، لإضفاء الشرعية على حكمها، وإظهار قدرتها على توفير الاستقرار والخدمات.. وعكست جهود الجولاني في إدلب، استراتيجيته الأوسع لإظهار قدرة هيئة تحرير الشام، ليس فقط على الجهاد ولكن أيضًا على الحكم بشكل فعال.. ومن خلال إعطاء الأولوية للاستقرار والخدمات العامة وإعادة الإعمار، كان يهدف إلى عرض إدلب، كنموذج للنجاح تحت حكم هيئة تحرير الشام، وتعزيز شرعية مجموعته وتطلعاته السياسية الخاصة.. ولكن تحت قيادته، همَّشت هيئة تحرير الشام الفصائل المسلحة الأخرى، سواء الجهادية أو المعارضة، في جهودها لتعزيز قوتها والهيمنة على المشهد.
وعلى مدى أكثر من عام، قبل الهجوم الذي شنته الفصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام في السابع والعشرين من نوفمبر الجاري، واجه الجولاني احتجاجات في إدلب من الإسلامويين المتشددين فضلًا عن الناشطين السوريين... وربط المنتقدون حكمه بحكم الأسد، واتهموا هيئة تحرير الشام بالاستبداد وقمع المعارضة وإسكات المنتقدين.. ووصف المتظاهرون قوات الأمن التابعة لهيئة تحرير الشام بـ (الشبيحة)، وهو مصطلح يستخدم لوصف أتباع الأسد الموالين.. كما قالوا، إن هيئة تحرير الشام تجنبت عمدًا القتال الهادف ضد القوات الحكومية، وتهميش الجهاديين والمقاتلين الأجانب في إدلب، لمنعهم من الانخراط في مثل هذه الأعمال، وكل ذلك لإرضاء الجهات الدولية.. وحتى خلال الهجوم الأخير، حث الناشطون هيئة تحرير الشام باستمرار، على إطلاق سراح المسجونين في إدلب بزعم معارضة الهيئة.. وردًا على هذه الانتقادات، بادرت هيئة تحرير الشام إلى إجراء العديد من الإصلاحات على مدار العام الماضي.. قامت بحل أو إعادة تسمية قوة أمنية مُثيرة للجدل كانت متهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، وأسسَت (إدارة الشكاوى)، لتمكين المواطنين من تقديم شكاوى ضد الجماعة، في حين قال منتقدوها، إن هذه التدابير كانت مجرد استعراض لاحتواء المعارضة.
ولتبرير ترسيخها للسلطة في إدلب وقمع التعددية بين الجماعات المسلحة، اعتبرت هيئة تحرير الشام أن التوحد تحت قيادة واحدة أمر بالغ الأهمية، لإحراز التقدم والإطاحة بالحكومة السورية في نهاية المطاف.. وسارت هيئة تحرير الشام وذراعها المدنية، حكومة الإنقاذ، على حبل مشدود، سعيًا إلى إبراز صورة حديثة ومعتدلة، لكسب تأييد السكان المحليين والمجتمع الدولي، مع الحفاظ في الوقت نفسه على هويتهما الإسلامية، لإرضاء المتشددين داخل المناطق التي يسيطر عليها المعارضون، وصفوف هيئة تحرير الشام نفسها.. على سبيل المثال، في ديسمبر 2023، واجهت هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ رد فعل عنيف، بعد أن انتقد المتشددون (مهرجانًا) أُقيم في مركز تسوق جديد باعتباره (غير أخلاقي).. وفي أغسطس من هذا العام، أثار حفل مستوحى من الألعاب البارالمبية، انتقادات حادة من المتشددين، مما دفع حكومة الإنقاذ إلى مراجعة تنظيم مثل هذه الأحداث.. هذه الحوادث توضح التحديات التي تواجهها هيئة تحرير الشام، في التوفيق بين توقعات قاعدتها الإسلامية، والمطالب الأوسع للشعب السوري، الذي يسعى إلى الحرية والتعايش بعد سنوات من الحكم الاستبدادي في عهد الأسد.
●●●
مع تطور الهجوم الأخير، ركزت وسائل الإعلام العالمية على ماضي الجولاني الجهادي، مما دفع بعض أنصار المعارضة إلى دعوته إلى التراجع، واعتباره عبئًا.. ورغم أنه أعرب سابقًا عن استعداده لحل مجموعته والتنحي جانبًا، فإن أفعاله الأخيرة وظهوره العام، تحكي قصة مختلفة.. لقد عزز نجاح هيئة تحرير الشام في توحيد المعارضة، والاستيلاء تقريبًا على البلاد بأكملها في أقل من أسبوعين، موقف الجولاني، مما أدى إلى إسكات المنتقدين المتشددين واتهامات الانتهازية.. ومنذ ذلك الحين، طمأن الجولاني وحكومة الإنقاذ الجماهير المحلية والدولية.. ووعدوا السوريين، بما في ذلك الأقليات، بالأمن، وتعهدوا للدول المجاورة والقوى مثل روسيا بعلاقات سلمية، بل إن الجولاني أكد لروسيا أن قواعدها السورية ستظل سالمة إذا توقفت الهجمات.. ويعكس هذا التحول استراتيجية (الجهاد المعتدل)، التي تنتهجها هيئة تحرير الشام منذ عام 2017، والتي تؤكد على البراجماتية بدلًا من الإيديولوجية الجامدة.. وقد يشير نهج الجولاني إلى تراجع حركات الجهاد العالمية، مثل تنظيم الدولة والقاعدة، التي يُنظر إلى جمودها بشكل متزايد على أنه غير فعال وغير مُستدام.. وقد يُلهم مساره مجموعات أخرى للتكيف، مما يشير، إما إلى عصر جديد من (الجهادية) المحلية المرنة سياسيًا، أو مجرد انحراف مؤقت عن المسار التقليدي، من أجل تحقيق مكاسب سياسية وإقليمية.. لقد نظر البعض سابقًا إلى طالبان، عند عودتها إلى السلطة عام 2021، وأشادوا بها، باعتبارها مصدر إلهام، ونموذجًا لموازنة الجهود الجهادية بشكل فعال مع التطلعات السياسية، بما في ذلك تقديم تنازلات تكتيكية لتحقيق أهدافها، لكن طالبان عادت إلى سيرتها الأولى، بمجرد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان!.
●●●
الذي لا جدال فيه، أن سوريا تعيش اليوم منعطفًا سياسيًا غير مسبوق، مع إسقاط نظام الرئيس السابق، بشار الأسد، بعد فترة حكم استمرت حوالي الربع قرن.. ولا يمكن لأحد، أمام مشهد سوريا بالغ التعقيد، أن يُنكر أو يتجاهل فرحة معظم الشعب السوري.. فبقاء الأسد في السلطة بعد حراك عام 2011، كلف هذا الشعب بكل أطيافه، الكثير من الأثمان الباهضة إنسانيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.. وفي نظرة مراقبة للمشهد المحفوف بالمخاطر، ترى السوريين مُصرين على (فرحة اللحظة)، وتقرأ على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات، مفادها بأن السوري يستحق التغيير، وبأن الفرح حق مشروع لشعب تكبد على مدى سنوات خسائر لا يمكن إحصاؤها.. وفي خضم هذه الحالة نفسها، يمكن رصد المخاوف السورية على مستقبل البلاد، لاسيما أن أمثلة راسخة من دول عدة في المنطقة، تثير القلق والشك، من إمكانية الانتقال إلى مرحلة مختلفة سياسيًا، قد لا تكون (براقة) كما يحلم الكثر.. فما هو مصدر القلق في سوريا؟.
من أبو بكر البغدادي في الموصل إلى أبو محمد الجولاني في المسجد الأموي في دمشق، لم يختلف المشهد إطلاقًا.. الرجلان اختارا منابر المساجد كوجهة لإلقاء الخطاب الأول، أو خطاب النصر، متوسطين جماهير أتت مبايعةً الزعيم المُستجَد.. من مسجد الموصل في العراق، ألقى البغدادي خطابه الأول بعد سقوط المدينة في قبضة داعش، ومن المسجد الأموي في دمشق أعلن الجولاني سقوط العاصمة في يد هيئة تحرير الشام.. أما في الجوهر، فزعيم داعش السابق، أي البغدادي، كما زعيم هيئة تحرير الشام الجولاني، ولدا من رحم تنظيم القاعدة.. قد يكون الزعيمان قد اختلفا بالعبارات المختارة في خطاباتهما، إلا أنهما تطابقا في المضمون إلى حد كبير، وعكسا الخطاب المعتاد لأي تنظيم متطرف.. البغدادي، كان قد أعلن قبل عشر سنوات دولة الخلافة، أما الجولاني فيعلن حاليًا، أن ما يتم تحقيقه ليس نصرًا لسوريا وحسب، بل للأمة الإسلامية بأسرها، مُسقطًا بذلك الحدود الجغرافية ـ وتلك صيغة (الأممية)، التي تنادت بها جماعة الإخوان المسلمين، أساس كل هذه التنظيمات ـ واعتبر أن سقوط نظام الأسد كان بسبب من وصفهم بالمجاهدين.
ومن الأدلة على ذلك الكثير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ظهر أحد قادة الفصائل المسلحة المنضوية تحت إطار هيئة تحرير الشام من ساحة المسجد الأموي في دمشق، مؤكدًا أن الأمر لن يقف عند دمشق، بل يعد بالوصول إلى القدس وغزة والمسجد الأقصى والمسجد النبوي والكعبة.. عبارات تُعيدنا وتُذكرنا إلى حد كبير بالخطاب الجهادي، الذي يُعلي عقيدة التنظيم على فكرة الوطن.. وصورة غياب اليقين المُهيمنة على هوية الدولة، في ظل وجود تنظيمات متطرفة في صفوف المعارضة السورية المسلحة، يطرح علامات استفهام عديدة.. علامات استفهام تستتبع المزيد من القلق على مصير المنطقة برمّتها، في حال فتح سقوط النظام السوري، الأبواب واسعة لعودة صعود الإسلام السياسي.. وتجارب الإسلام السياسي التي لم تُبشر خيرًا في كل من إيران ومصر، طالت جوانب دقيقة من مفاصل الدولتين، وأخرت تقديم نموذج الحكم المدني الناجح.
في إيران، بدأ الخميني خطابه بشعارات الحرية والعدالة، قبل أن يؤسس نظامًا دينيًا متشددًا، يود الإيرانيون الآن لو سقط هذا النظام اليوم قبل الغد.. وفي مصر، ظهر الإخوان بخطاب سياسي مرن خلال الثورة، زعموا فيه أنهم لا يريدون الحكم، ولكن سرعان ما تحولوا إلى توجهات أيديولوجية مُتشددة تهدف إلى أخونة الدولة.. واليوم، تحاول التنظيمات المتطرفة تقديم نفسها نموذجًا مقبولًا، للإمساك بزمام الأمور السورية.. لكن الدروس المستفادة تحول دون إيمان المنطقة بطرحها، فالجرح السوري النازف منذ أربعة عشر عامًا لا يحتمل أي مجازفة غير محسوبة.. وحرية السوريين لا يجب ان تكون ممرًا لعودة التطرف.. واليوم، يتبنى الجولاني لغة يحاول فيها أن يتبنى نهجًا أكثر اعتدالًا ومرونة، لكن يبقى السؤال: هل سيظل هذا التحول مستمرًا؟.. أم أنه مجرد تكتيك مؤقت سينقلب مع مرور الوقت إلى تشدد أكبر، كما حصل في تاريخ الحركات الإسلاموية والسلطة من طهران إلى مصر مرورًا بغزة؟.
●●●
نكرر ثانية، أن سوريا اليوم تقف عند مفترق حاسم في تاريخها، إذ تواجه مرحلة مصيرية، تتراوح بين احتمالات قيام دولة قادرة على النهوض وفق مشروع وطني شامل، أو الانزلاق نحو مزيد من الفوضى والصراع الداخلي.. هذه المرحلة تتطلب من جميع الأطراف المعنية اتخاذ قرارات حاسمة، خصوصًا في ما يتعلق بمؤسسات الدولة، وأبرزها الجيش السوري، الذي يبقى أحد أبرز العوامل المؤثرة في مستقبل البلاد.. فالجيش السوري، كركيزة أساسية لاستقرار البلاد، هو عامل رئيسي لاستقرار سوريا، ومن الضروري الحفاظ عليه، وإعادة هيكلته بطريقة تساهم في خدمة البلاد، على عكس ما سمعت عن النية في تفكيك الجيش الوطني السوري، باعتباره من إرث حقبة الأسد.. بل إن الأولى، أن تقوم سوريا الجديدة على مفهوم السيادة الوطنية والاستقلال، مع التخلص من الأذرع المسلحة غير الجيش الوطني، والحفاظ على مؤسسات الدولة، ومؤسسة الجيش، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من السيادة الوطنية.
أحد أكبر التحديات التي تواجه سوريا في المرحلة المقبلة، هو التعددية الدينية والثقافية في المجتمع السوري، والتي تفرض ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، فتنوع أفراد المعارضة، الذين ينتمون إلى خلفيات دينية وثقافية متباينة، يتطلب بذل جهود إضافية لتعزيز (الوحدة والتفاهم) بين جميع مكونات المجتمع السوري، وبالتالي، أصبحت مسألة تعريف الهوية الوطنية في سوريا، ذات أهمية كبيرة، هذا التعريف لابد أن يكون قائمًا على (مبدأ المواطنة وحقوق متساوية لجميع المواطنين)، لضمان تجنب الأزمات والصراعات الطائفية والعرقية.. وفي سياق هذه التطورات، يبرز بشكل واضح اقتراحات بضرورة تشكيل (حكومة وحدة وطنية) تضم جميع الأطراف السورية، كما أن التنسيق مع الحكومة الحالية، سيكون خطوة هامة على طريق الانتقال إلى (حكومة جديدة متفق عليها)، ولحل يحتاج إلى (مشاركة الجميع في الحلول)، بما يضمن توزيع السلطة والموارد بين جميع المواطنين، من دون تكرار سياسات النظام السابق التي كانت تهمش الهويات المختلفة.
وهنا، أمام السوريين خيارين أساسيين: إما الدخول في فوضى نتيجة التنوع الطائفي داخل الجيش، أو بناء مؤسسات أمنية وعسكرية موحدة.. وعلى الجميع أن يعمل على تأسيس (مؤسسة عسكرية للمرحلة القادمة)، بدلًا من إفساح المجال للفوضى. كذلك، فإن التوافق حول إنشاء حكومة وحدة وطنية، يشمل ضرورة الاتفاق على هوية الدولة من خلال (دستور مؤقت يحددها كدولة مدنية).. وبما أن سوريا أمام مفترق حساس في المرحلة المقبلة، فإن ذلك يتطلب، الحفاظ على الاستقرار الوطني بإرساء قاعدة صلبة من الوحدة الوطنية والسيادة.. إتحديد دور الجيش السوري وإعادة هيكلته.. ضمان حقوق جميع المكونات السورية، وهذا يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف. سواء من خلال الحفاظ على مؤسسات الدولة أو من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة.. فإن هذه المرحلة تتطلب قيادات حكيمة قادرة على تجنب الفوضى، وبناء سوريا جديدة، قائمة على أسس من المواطنة والمساواة.. فهل تجد سوريا مبتغاها؟.. الأيام القادمة ستٌجيب هلى هذا السؤال.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق