"الفلسفة ملهاش علاقة بالواقع".. "الفلسفة في الكتب وبس، ونظريات الفلاسفة داخل الكتب وبسط".. ستظل هذه الدعاوي وتلك العبارات هي الشيطان الماكر الذي يلعب بعقول قراء الفلسفة، بل والمانع ايضًا لكل من أراد الدخول والبداء في قراءة هذا الفرع المعرفي الزخم، ما لم نُبين الدور الحقيقي الذي تشغله الفلسفة وهنا سنحاول خلال الكبسولة الفلسفية لهذا الأسبوع، بيان الدور المحوري الذي تلعبه الفلسفة من خلال أحد افرعها المسمى بـ "الفلسفة السياسية".
عزيزي القارئ تحاول الفلسفة على مر العصور ترشيد سلوكنا على نحو عقلاني، وهو ما يتطلب مفهومًا عامًا في العالم الذي يتم فيه هذا الترشيد وفي أنفسنا بوصفنا كائنات فاعلة فيه. وتأتي السياسة لإتمام دور الفلسفة، من خلال وضع القوانين والضوابط التي يحتاجها المجتمع من أجل استقراره وتقدمه، وهنا كان لابد من حدوث المشاركة بين الفلسفة والسياسة في إنتاج مجتمع متماسك عضويًا، متكامل نسبيًا.
فكان من المستحيل على الفلاسفة أن يغضوا الطرف عن السياسة، لذلك يجب أن تُغذي الفلسفة السياسة بالمعايير، وبالنظريات المرشحة للفعل، وأن تعمل على توعية السياسي توعية تؤكد له مفهوم «إنسان»، وتجعله أكثر حساسية بمسئولياته. وليكن تساؤلنا، كيف تساعدنا الفلسفة السياسية على فهم المسائل السياسية في عصرنا وحلها؟
إجابتنا عن التساؤل السابق تكمن في الدور الذي تلعبه الفلسفة السياسية، حيث تعرضت لكل من أصل الدولة ومحاولة تفسير نشأة السلطة في المجتمعات القديمة، ثم تطرقت لطبيعة الدولة والأسس التي تقوم عليها سلطتها، وحق السيادة بداخلها وصاحب السلطة في إصدار القرارات فيها، والعلاقة بين الحكام والمحكومين، ومدى شرعية السلطة فيها وأنواع أنظمة الحكم، والشكل المثالي للسلطة، بمعني أن الفلسفة السياسية تعرضت لكافة فروع علم السياسة وأن كانت تتركز في الأساس على السلطة ذاتها.
لذلك تعتبر مؤلفات كبار فلاسفة الإغريق القدامى، وعلى رأسهم أرسطو وأفلاطون، هي أول المؤلفات التي تضمنت تحليلات سياسية قابلة لأن تشكل أساسّا لما أصبح يعرف فيما بعد بالفلسفة السياسية. وقد ألهمت هذه المؤلفات – وهو ما أكدناه على مدار ثلاثة أجزاء متصلة حملت عنوان «الفلسفة والسياسة.. رؤية فلسفية لسياسات الحضارات القديمة» نُشِرَتَ هنا على بوابة دار الهلال الإلكترونية – عددًا من الفلاسفة والمفكرين الذين تتابعوا على مر القرون منذ العصر اليوناني القديم وحتى العصر الحديث. غير أن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين طرحوا رؤى ونظريات وتحليلات سياسية شديدة الاختلاف والتبيان.
أضف إلى ذلك صديقي القارئ تتضمن الفلسفة السياسية في نفس الوقت بعدًا وصفيًا، أي إعطاء وصف للحياة الجماعية ووصف عمل الحكومة السياسية، وتوضيحيًا، أي التشكيك في أصل المدينة والقوانين، وفهم أسباب تطور النظم، ومعياريًا، أي تحديد النظام الأكثر عدلًا. بقدر ما تسعى إلى تحديد مبادئ الحكومة الرشيدة من خلال البحث عن المبادئ الأخلاقية، ولهذا ترتبط الفلسفة السياسية ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة الأخلاقية، أي أن التفكير في الأخلاق، وخاصةً الفضائل، يسهم هذا في تحديد ما ينبغي أن تكون عليه المدينة الخاضعة لحكم رشيد.
وفي الختام يمكننا القول إن الفلسفة السياسية هي اجتهادات ورؤى يطرحها المفكرون، لتفسير الظواهر والأوضاع السياسية القائمة، أو لصياغة نماذج لمجتمعات مثالية، أو فاضلة في محاولة لتجاوز الواقع المعاش والتغلب على سلبياته. وقد اختلفت الموضوعات التي جذبت اهتمام المفكرين ودفعتهم لدراستها والتعلق عليها باختلاف العصور والأزمنة التي عاشوا بيها. ولذلك يصعب فهم الأفكار السياسية وسياق تطورها بمعزل عن الزمان والمكان والبيئة الاجتماعية والسياسية التي ظهرت فيها تلك الأفكار. وبعبارة واحدة، على السياسي أن يحتك بالفلسفة ليستمد منها المعونة النظرية والأخلاقية، لتحسين المجتمع وتطويره لغدٍ أفضل.
0 تعليق