تثير الأحداث الأخيرة فى سوريا قدرًا كبيرًا من التفكير والتأمل والتصورات، وقد كان لدىّ طوال الوقت تصور عن بشار الأسد ونظامه، لكنى لم أطرحه، فقد كنت حريصًا على ألا أثير فى مجرد مقال سريع قضية بالغة التعقد والتشعب، وأعنى قضية الأنظمة الوطنية الاستبدادية، التى شهدنا ثمارها المؤلمة فى سقوط صدام حسين ومعمر القذافى وغيرهما.
من ناحية، لا يستطيع أحد أن ينكر الطابع الوطنى لتلك الأنظمة التى سعت إلى مجابهة الاستعمار، ومن ناحية ثانية فإن تلك الأنظمة بمصادرتها الحريات الشعبية كانت تحفر قبرها، إذ لا يمكن لشعب مقهور أن يدافع عن مكاسبه وهو مكبل اليدين.
وعلى مدى نحو ربع قرن، منذ وصول بشار إلى الحكم عام ٢٠٠٠ أثبت عجزه عن تحرير الجولان، وعجزه عن حشد الطاقات الشعبية من أجل ذلك التحرير، بل وعجزه عن القيام حتى بتنمية اقتصادية مستقلة ذات شأن، ولم يظهر مواهبه إلا فى مصادرة الحريات وإخماد أصوات المعارضة، وظلت سوريا فى عهده الطويل نهبًا للقواعد العسكرية الأمريكية والروسية والنفوذ التركى والإسرائيلى بل والإيرانى، وظل بشار أقرب إلى الرئيس «الصورى» منه إلى الزعيم السورى، إنجازه الوحيد الملموس على أرض الواقع هو التنكيل بالمعارضة.
لكن الإطاحة بالأسد وإجباره على الرحيل لم يتما بفعل قوى شعبية ديمقراطية، بل بمخطط خارجى تركى إسرائيلى أمريكى يستخدم جماعات من المرتزقة الذين يتقنعون بالدين، مثل «هيئة تحرير الشام» وغيرها من فلول داعش، والإخوان، والميليشيات التى تمولها تركيا.
ولذلك لا عجب حين تنشر تركيا خرائط تضم حلب السورية إلى أراضى تركيا، وأيضًا الموصل العراقية، وحين يقول أردوغان بصراحة: «لقد دعمنا قوات المعارضة السورية التى تسعى للإطاحة بنظام الأسد»، وحين تعلن أمريكا أنها حذفت «هيئة تحرير الشام» من قائمة الإرهاب، ثم تتقدم إسرائيل لتحتل الشريط العازل فى الجولان، وتنظم عمليات اغتيال أكبر العلماء السوريين مثل زهرة الحمصية عالمة الذرة، وقبلها عالم الكيمياء حمدى إسماعيل، ثم تتوغل داخل الأراضى السورية.
من المفهوم أن ثمة فرحة بتحطيم الطغيان، وفتح أبواب السجون، إلا أن ذلك يتم فى ظل غزو أوسع، يضع سوريا على مفترق طرق، ويدفعها دفعًا إلى طريق الطائفية، والتمزق، والخضوع لأهداف الاستعمار الأمريكى الإسرائيلى التركى، مما يطرح بقوة أهمية وخطورة الانتباه إلى وحدة الأراضى السورية، كما يطرح بقوة أهمية أن تستيقظ القوى الديمقراطية السورية الحقيقية لكى تقوم بدورها.
لقد كانت سوريا دائمًا قريبة من مصر، فى الثقافة والفن والسياسة، وسوف ينعكس مصيرها على مصر، شئنا أم أبينا، وقد لاحظ جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر. دراسة فى عبقرية المكان» أن الدفاع عن مصر يجب أن يبدأ من خارج حدودها من فلسطين وليبيا وسوريا، والخوف كل الخوف الآن، أن تتمزق سوريا بأفواه الطائفية والتفتت والسقوط الكامل فى براثن حلف الناتو وإسرائيل، وليس فى كل ذلك ما يسعدنا لا نحن ولا السوريون. لقد تحرر السوريون من سجون بشار الأسد، لكن إلى أين؟
0 تعليق