استعانت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بماضى الجماعات الإسلامية المسلحة فى سوريا لرسم خريطة طريقهم، مستقبلاً بعد سيطرتهم على الأوضاع الداخلية منذ هروب بشار الأسد، ولفتت إلى أنه منذ عام 2017، نجحت هيئة تحرير الشام والمنظمات التابعة لها، فى خلق مستوى معين من الاستقرار فى إدلب، وحكمت من خلال سلطة مدنية تضم 11 وزارة، ما سمح لها بالتركيز على إعادة بناء ميليشياتها كقوة أكثر تنظيماً.
والسؤال الأساسى هو هل هؤلاء المتمردين الذين يحاولون الآن تشكيل حكومة وطنية، قادرون على توسيع نطاق ما حققوه فى إدلب؟ حيث لم يتمكن الوزراء الذين يتعاملون مع منظمات الإغاثة الخارجية من اتخاذ قرار على الفور، بل كان عليهم دائمًا التشاور أولاً مع قادة هيئة تحرير الشام، وفقًا لممثل إحدى المنظمات الإنسانية وقد تنجح مثل هذه السيطرة الصارمة فى محافظة صغيرة، ولكنها قد تكون صعبة فى بلد كبير.
وبفضل جذورها فى تنظيمى الدولة الإسلامية والقاعدة، قامت هيئة تحرير الشام بتعديل توجهاتها الجهادية الخاصة بدءًا من عام 2016، وفى حين أنها فرضت بعض الممارسات الإسلامية المحافظة، إلا أنها لم تلجأ إلى القيود التى فرضها تنظيم الدولة الإسلامية عندما حكم أجزاء من سوريا.
ومع ذلك، لا تزال هيئة تحرير الشام مصنفة منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة وتركيا وغيرها من الدول.
وأكد محللون أن الجماعة تخلت أيضًا عن بعض الأساليب الإرهابية التى استخدمتها سابقًا، مثل التفجيرات الانتحارية ضد الأهداف العسكرية.
وفى ذلك أكد تشارلز ليستر، مدير برنامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف فى معهد الشرق الأوسط فى واشنطن، أنه بينما كان المقاتلون المتمردون يتجهون جنوبًا نحو دمشق فى هجومهم الذى أطاح الأسد، كان قادتهم يقدمون لهم خطابات حماسية حول استعادة سوريا، وليس حول إنشاء دولة إسلامية.
وقال الخبراء إن التدريب والشعور بالمهمة بدا كأنه يغرس روح الفريق بين مقاتلى المجموعة الذين غالبيتهم من الشباب، فى حين يضمن الأجر المنتظم الولاء مع تقليل عمليات النهب أو غير ذلك من عمليات الابتزاز.
وتابع آرون زيلين الخبير فى شئون الجماعات الجهادية فى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومؤلف كتاب عن هيئة تحرير الشام: «بالنسبة لهم، يشكل الانضباط والاحترام جزءاً أساسياً من نظرتهم للعالم». ولأن الحكومة الوطنية فى دمشق حاولت عزل المناطق التى يسيطر عليها المتمردون فى الشمال، فقد اضطرت تلك المناطق إلى الاعتماد على تركيا للحصول على الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والاتصالات الخلوية. وأنشأت هيئة تحرير الشام شركات توزيع خاصة ظاهريًا، لكن أصحابها كانوا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالمنظمة، وفقًا لمجموعات الإغاثة والخبراء.
لكن المصدر الرئيسى لإيراداتهم كان على الأرجح الرسوم الجمركية وغيرها من الرسوم التى يتم تحصيلها عند معبر باب الهوى الحدودي، البوابة الرئيسية إلى شمال غرب سوريا من تركيا. ولم تنشر المجموعة أرقامًا، فى حين أن المنظمات الإنسانية العاملة فى إدلب وغيرها تؤكد أنها ربما حققت 15 مليون دولار أو أكثر شهريًا.
وأوضح جيروم دريفون، المحلل البارز فى شئون الجهاد والصراع الحديث فى مجموعة الأزمات الدولية: «لقد أصبحوا أقرب كثيراً إلى أن يكونوا جيشاً وليس مجرد مجموعة من الجماعات المسلحة».
وقال إنهم درسوا كتيبات العقيدة العسكرية الغربية التى نشرتها على الإنترنت مختلف القوات المسلحة وحاولوا إلى حد كبير اتباع النموذج البريطانى.
وقال خبراء إن المصدر الرئيسى للأسلحة التى حصلوا عليها كان ما استولوا عليه من قواعد عسكرية سورية أو فى معارك مع ميليشيات أخرى، وعلى مر السنين، شكل هذا جوهر ترسانتهم. كما باع لهم ضباط فاسدون من نظام الأسد أسلحة، بينما قدمت تركيا شاحنات وأسلحة خفيفة للميليشيات المتحالفة فى شمال سوريا.
انضمت بعض الميليشيات المدعومة من تركيا إلى هيئة تحرير الشام فى الهجوم الذى أطاح بالحكومة. وقال ديفون إن من المعتقد أن تركيا كانت تتمتع بقدر معين من النفوذ على الحملات العسكرية للجماعة مع ما لا يقل عن 10 آلاف جندى فى محافظة إدلب والعديد من القوات الأخرى القريبة.
وكما هى الحال مع أى حركة عصابات، كانت الحاجة الرئيسية للمجموعة هى الأسلحة الخفيفة أو المدفعية فضلاً عن مركبات النقل، ويقول ليستر من معهد الشرق الأوسط إن المجموعة قامت حتى بتصنيع مركباتها المدرعة البدائية بنفسها.
وقدر الخبراء أن إجمالى أعداد مقاتلى هيئة تحرير الشام يتراوح بين 10 آلاف و60 ألف مقاتل. لكن النواة الأساسية ربما كانت تتألف من نحو 10 آلاف إلى 15 ألف مقاتل، إلى جانب عدد مماثل تقريبا من جنود الاحتياط.
«لقد قرروا إعادة هيكلة تنظيمهم بالكامل»، كما قال دريفون. وأضاف: «لقد تم تشكيل ألويتهم كوحدات متخصصة ذات وظائف مختلفة مثل المشاة وقذائف الهاون وما إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، كانت أكثر مركزية».
وكان التطور الأبرز الذى حققته الجماعة هو تجميع وحدة طائرات دون طيار. وقال المتمردون إنهم حصلوا على بعض الطائرات دون طيار وقاموا بتصنيع طائرات أخرى بأنفسهم.
ومن حيث أساليب السيطرة، كانت الجماعة المتمردة تترك فى كثير من الأحيان السلطات المحلية فى مكانها، وخاصة فى القرى التى تسيطر عليها الأقليات الدينية.
ولم تستخدم هيئة تحرير الشام الأساليب الوحشية التى تستخدمها الجماعات الأكثر تطرفاً لفرض الممارسة الإسلامية، حيث لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية يتسامح مع أى انحراف عن ما اعتبره الشريعة الإسلامية. فكان يتم إعدام بعض المخالفين، بينما يتم قطع يد السارقين المدانين. ولكن هيئة تحرير الشام لا تندرج ضمن هذا الصندوق.
وفى السياق طرحت الجارديان البريطانية تساؤلات عن السيناريو القادم فى مستقبل سوريا فى ظل حكم الجماعات المسلحة، وخاصة مع جو البهجة العارمة التى اجتاحت دمشق لمدة أسبوع منذ هروب بشار الأسد وانتهاء ثلاثة عشر عاماً من الحرب الأهلية، وأكثر من خمسين عاماً من الدكتاتورية القمعية.
ولكن النشوة تخفى وراءها قلقاً عميقاً. فالتحديات التى تواجه البلاد عديدة ومعقدة ومرعبة. وبالنسبة إلى العديد من المواطنين، فإن الأولوية القصوى هى اكتشاف ما حدث للأقارب والأصدقاء المفقودين المسجونين أو «المختفين قسراً» فيما هناك رغبات قوية فى الانتقام الفورى سوف يكون من الصعب احتواؤها. فهى تعكس رغبة أوسع فى المحاسبة الوطنية . ولابد أن تستسلم روسيا للأسد الذى يرتعد خوفاً فى موسكو. فقد قامت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة فى سوريا وغيرها من الهيئات بتجميع الأدلة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما فى ذلك الهجمات الموثقة بالأسلحة الكيميائية، منذ عام 2011. ولابد أن يحاكم الأسد دون تأخير، ويفضل أن يكون ذلك من قِبَل المحكمة الجنائية الدولية. وينطبق نفس الشىء على كبار المسئولين فى النظام فقد تم تحديد هوية نحو 4000 من الجناة. ويعتمد تماسك سوريا فى المستقبل إلى حد كبير على تقديم جميع المذنبين إلى العدالة، دون استثناءات.
كما أن عدم الاستقرار السياسى يشكل مصدر قلق ملحاً. وخاصة مع تكذيب هيئة تحرير الشام الميليشيا الإسلامية المرتبطة بتنظيم القاعدة والتى قادت الهجوم على الأسد، جذورها المتطرفة بكلمات مطمئنة إلى حد ما.
فى هذه اللحظة المحورية من المخاطر القصوى وانعدام الثقة المستمر، ينبغى أن تقود الأمم المتحدة المساعدات الدولية. كما هناك معركة أخرى تدور فى الشمال بين القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة والجيش الوطنى السوري، وهو مجموعة متنوعة من الميليشيات التى ترعاها تركيا. وقد نزح عشرات الآلاف من الناس حديثًا .
وتظل ذريعه تواجد القوى الدولية هو إحياء إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية الذى يشكل مصدر قلق كبير آخر. فقد تم احتجاز الآلاف من الجهاديين فى معسكرات صحراوية تؤمنها القوات الكردية، التى تتعرض لضغوط من وكلاء تركيا. وقد يكون الهروب الجماعى كارثياً. وفى الوقت نفسه، تسعى روسيا وإيران، الداعمان الرئيسيان للأسد، جاهدتين لإنقاذ شىء ما من هزيمة استراتيجية مهينة .
وتعقد جامعة الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة ودول مجموعة الدول السبع الكبرى محادثات طارئة فى الأردن حول أفضل السبل للتعامل مع هذا الواقع الجديد.
0 تعليق