يمضى العمر مسرعًا، وحين الوصول لمحطة الستين يعتقد الكثيرون أن محطة الراحة قد جاءت، ولكن الواقع يؤكد عكس ذلك، فهناك رجال ونساء أجبرتهم الحياة على مواصلة الكفاح والعمل بلا كلل ولا ملل، هؤلاء الأبطال الصامتون يحملون على عاتقهم عبء السنين وتجاربها، ويواجهون كل صباح تحديات الحياة بعزيمة لا تنكسر، هم الذين يجعلون من لقمة العيش جائزة، ومن العمل قيمةً سامية، رغم ما قد يواجهونه من صعوبات صحية أو ضغوط نفسية. حكاياتهم تلهمنا الصبر، وتعلمنا أن الكرامة فى العطاء والعمل لا تعترف بحدود العمر.
بعد ما شاب.. شاف العذاب، هذا هو حال كثير من الذين تخطوا سن الـ60 عامًا والتقينا عددًا منهم ليروى لنا بطولات من نوع خاص يعجز عن تحقيقها كثير من الشباب.
بائعة الخضروات: 10 ساعات أشغال شاقة على الرصيف
فى سوق شعبى انزوت «سنية»، وأمامها أقفاص جريدية بها عدة أنواع من الخضروات، اتخذت من المارة أصدقاء يونسون وحدتها بعدما تجاوزت سن الـ70 عامًا.
تعيش «سنية» بمفردها فى غرفة بسيطة بعدما استطاعت أن تؤدى رسالتها مع أبنائها وتزوجوا جميعًا، لتكمل حياتها بمفردها وتواجه أهوالها.. مزيجًا من الإرهاق والأمل. رغم آلام المرض الذى حل بجسدها النحيل، وأعباء الحياة التى دفعتها لمواصلة العمل حتى لا تمد يدها لأحد، تقضى أكثر من 10 ساعات يوميًا فى بيع الخضروات لتتمكن من توفير ثمن علاجها، الذى أصبح عبئًا ثقيلًا على كاهلها.
تحكى «سنية» بصوت يجمع بين الحزن والقوة، وتروى كيف أجبرتها الظروف على هذا العمل. تقول: «ما عنديش حل تاني، يا أشتغل وأوفر تمن العلاج.. يا أموت».
فى الصباح الباكر، تحمل صناديق الخضروات وتنتقل من منطقة إمبابة إلى رصيف السوق بالدقي، ترتبها بعناية لتجذب الزبائن، وتظل جالسة لا تبالى برد الشتاء، مبتسمة لكل من يقترب منها.
ورغم التعب الذى ينهك جسدها، تقول: «مش مهم التعب، المهم أعيش بكرامة، وما أمدش إيدى لحد».. سنية تواصل حديثها قائلة: «عمرى ما كنت أتخيل إنى هكون فى المكان ده وفى السن دى، كنت فاكرة إن الحياة بعد الستين هتكون أحلى، لكن الدنيا علمتنى أن العمل لا يتوقف مهما مر العمر، حتى لما حاولت أريح شوية من التعب، جتنى الأمراض اللى بتؤلمنى ليل نهار، وعشان كده قررت أشتغل عشان أقدر أصرف على نفسى وعلى علاجى».
تصمت السيدة قليلًا وتتذكر أصعب مراحل حياتها وتقول: إنها أصيبت بمرضٍ خطير واحتاجت إلى عمليات جراحية متكررة، لكن العلاج كان مكلفًا جدًا. لم يكن لدى ما يكفى من المال، وكان من الصعب أن أعتمد على أحد. خاصة أن أبنائى كانوا مشغولين بحياتهم. فكرت فى كل الخيارات، لكن اللى لقيته قدامى هو أنى أشتغل وأواجه المرض».
وتتذكر سنية بحزن شديد: عندما كنت أرى نفسى متعبة وأتحرك بصعوبة بسبب المرض كنت أردد: «مفيش حد هيعيش حياتى غيرى. لو استسلمت، مفيش حد هيساعدنى».
جلسات سيدات أهالى المنطقة بجوارها تؤنس وحشة ساعات العمل فى نهار الشتاء، وكثيرًا ما يمنحوها كوب من الشاى الدافئ ليعينها على استكمال يومها، وقالت: «أنا بقعد هنا من 12 سنة والأهالى عرفونى.. كتير بيجيبولى شاى علشان أحس بالدفا، وأحيانًا بيعزموا عليا بالغدا».
تروى السيدة موقفًا لسقوط الأمطار وكيف كانت حائرة أين تذهب بخضرواتها، حتى وجدت أحد الأهالى ينادى عليها سريعًا لدخول المبني، وساعدها فى ذلك بعض الشباب، واستظلت بمدخل العمارة حتى استقر الطقس وعادت لمكان عملها.
ماسح الأحذية: «لولا العمل لمت من الجوع»
تجده يوميًا يقوم بعمله على أرصفة الأحياء الراقية، يحمل فرشاته الصغيرة وصندوق الورنيش أمامه، ينتظر زبائنه الذين يعرفونه ويتوجهون إليه لتلميع أحذيتهم، وجهه المشقق يعكس مدى شقاء رحلته، رغم تقدم عمره فإنه يتخذ من نشاطه سبيلًا ليستمد عافيته، يجوب الشوارع لساعات، يعمل تارة ويجلس ليستريح تارة أخرى، وعدته البسيطة لا تفارقه أبدًا، بطولة خاصة يجسدها «جمال» الذى يعانى من آلام فى الظهر والمفاصل، ولكن لا مجال للاستسلام، ويحكى جمال قصته قائلًا: «حياتى شقاء.. لا اعترض على قضاء الله ولكن باحمد ربنا إن عندى صحة وبواصل العمل».
مارس «جمال» مهنًا متعددة خلال رحلته مع الحياة، لكن بعد أن فقد قدرته على العمل فى الوظائف الأخرى بسبب تقدمه فى السن، قرر أن يعمل كماسح أحذية، وجد فى هذه المهنة فرصة لكسب المال بعرق جبينه. ويقول: «الناس هنا فى الأحياء الراقية دايمًا بيدفعوا كويس، وأنا شاكر لأى حد بيشكرنى أو يساعدنى».
رغم أن البعض ينظر إليه نظرة دونية بسبب عمله، إلا أن «جمال» يستقبلها بشرف وفخر، ويقول: «اللى بيشتغل بيكون بين يدى الله ولا يخاف من أحد».
مع كل خطوة يخطوها على الرصيف، يشعر ماسح الأحذية بأنه يُقدّم درسًا لغيره من الشباب الكسولين ويقول: «لو الواحد استسلم، يبقى خلاص، لكن الحياة هتكون أسهل لو صبرنا».
يواصل ماسح الأحذية حديثه ويقول إن كثيرًا من المواطنين يقدمون له مبالغ كبيرة كمساعدة منهم له مقابل تلميع أحذيتهم، وتابع: «بكون عايز 30 جنيهًا وبلاقيه يدينى 100 جنيه.. بصراحة بحس بقيمة الحياة وإن تعبى مش بيروح هدر وربنا بيوقفلى ولاد الحلال».
يستكمل «جمال» حديثه ويقول إنّه فى كثير من الأيام يعود لمنزله مبكرًا بسبب تعاطف المواطنين معه وتقديم مساعدات مالية له تكفيه ويعود مسرعًا للاستمتاع بدفء المنزل.
دعم المواطنين لماسح الأحذية لم يكن على هذا فحسب، بل كثير ما يقدم له أصحاب المقاهى كوب الشاى أو القهوة بالمجان، وتابع: «لو بشرب مرتين شاى بيحاسبونى على مرة والتانية ببلاش..وبيدعولى ربنا يقويك».
عم شعبان: قلب نابض بالإنسانية
فى أحد الأزقة يجلس رجل سبعينى على كرسى خشبى صغير يضع أمامه صندوقه العتيق الذى يحمل تاريخًا من السنين والكفاح.. هذا هو عم شعبان، رجل بسيط المظهر، ذو وجه مُشبع بالتجاعيد التى تحكى آلام الزمن، ابتسامة دافئة تكشف عن رضا رغم قسوة الحياة، يسعى جاهدًا لأبنائه الأربعة، ويعمل نهارًا وليلًا ليضمن لهم حياة أفضل.
«كل واحد شق طريقه، وأنا كفاية عليّ رضاهم وسعادتهم».. هكذا يقول شعبان بابتسامة فخر ورضا. ورغم بعدهم عنه، إلا أنه يتذكر كل تفاصيل طفولتهم، من خطواتهم الأولى حتى يوم زفافهم.
فضل الرجل السبعينى العمل فى الأحياء الراقية، يطوف بينهم بابتسامة ودودة، يحمل صندوقه الخشبى على كتفه الهزيل، وينادى بجملة ساخرة: «حد محتاج يلمّع جزمته.. علشان تبقى أحلى من حياته؟»، رجل يمتلك قلبًا نابضًا بالإنسانية. كثيرًا ما يرفض أخذ الأجر من طفل صغير، أو يترك شخصًا عاجزًا دون أن يمد له يد العون.
يستكمل ماسح الأحذية حديثه ويقول «الدنيا خيرها كتير، ومهما شفت تعب، بشكر ربنا اللى مدينى صحة أقدر أساعد بيها غيرى».
بائع الفول «حكيم الشارع»
على رصيفٍ مزدحم فى أحد شوارع المدينة، يقف عبدالعال صاحب الـ67 عامًا أمام عربته الصغيرة المليئة برائحة الفول الساخن التى تعبق فى المكان. رجل بسيط بملامح تحمل آثار الزمن وشمس السنين، ولكنه يمتلك نظرة مفعمة بالصبر، كأنها حكاية تحكى عن حياة امتزجت بالتحديات والرضا.
منذ سنوات طويلة وهو يدفع عربته يوميًا إلى نفس الزاوية، يستقبل زبائنه بابتسامة وعبارة ودودة: «صباح الخير... فول ولا طعمية؟»، ورغم برودة الشتاء، لا يتأخر «عبدالعال» عن عمله. فهو يعيش من رزقه اليومي، ويجد فى تقديم وجبة شعبية بأسعار زهيدة رسالة إنسانية قبل أن تكون تجارة.
«الحياة مش سهلة، بس الرضا نص الراحة».. يقولها «عبدالعال» الملقب بـ«حكيم الشارع» ويواصل حديثه قائلًا: «الجيل الجديد محتاج يسمع الكبار شوية... الأخلاق هى اللى بتبنى المجتمع».
يجلس عبدالعال على كرسيه الخشبى فى لحظات الهدوء، مراقبًا حركة الناس والشباب من حوله. يحزنه أحيانًا ما يراه من سلوكيات لا تتناسب مع القيم التى تربى عليها.
«عبدالعال» يحمل الأمل فى أن يعود الشباب إلى جذورهم الأخلاقية، فهو يرى أن التربية السليمة والمسؤولية المشتركة هى الحل.
«عبدالعال»، لقبه الكثير بـ«حكيم الشارع»، كثير من زبائنه لا يأتون فقط لشراء الطعام، بل للجلوس والتحدث معه. يستمع لهم بصبر ويقدم نصيحته بحب، وكأنه صديق للجميع.
يواصل بائع الفول حديثه ويقول إن كثيرًا من الشباب ما يقولون له إنه قدوة لهم فى المثابرة والصبر والكفاح، وكيف له أن يقضى قرابة 10 ساعات عمل على الرصيف فى حين بعض الشباب لا يستطيعون قضاء 6 ساعات عمل على المكتب، وتابع: «بقولهم دائمًا تعب الشغل يا ولاد.. ولا تعب قلته.. أحمد ربنا عندك صحة تتشغل وتجيب قرش لنفسك دى نعمة كبيرة.. محدش هيحس بيها إلا فاقدها.
ياعم «عبدالعال» ألم يمر عليك وقتًا وتشعر بوحشة الزمن عليك لكونك رجل تخطيت الـ70 عامًا ولا تزال تعمل على الرصيف وهناك شباب لا يشعرون بقيمة حياتهم المرفهة؟ ليرد قائلًا: العمل عبادة واللى بعمله أكبر صورة للإيمان.
0 تعليق