الدواء والعلاج.. ملحمة قيادة مصرية وطنية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الإثنين 23/ديسمبر/2024 - 02:49 م 12/23/2024 2:49:28 PM

لم تكد المدة تصل إلى ثلاثة شهور، منذ أن نشرت صحيفة Independent، تحقيقها المُعنون بـ (دوامة البحث عن الأنسولين تبتلع مرضى السكري في مصر)، في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، إلا ووقف الدكتور خالد عبد الغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية، وزير الصحة والسكان، خلال الاحتفال باطلاق أول أنسولين عالمى يُنتج فى مصر، قبل أسبوع من الآن، ليُعلن (أننا سعداء أن نكون هنا، فى الاحتفال بتوطين صناعة الأنسولين فى مصر، لأن صناعة الدواء تعتبر أمن قومى، ولدينا أكثر من مائة وسبعين مصنع مصرى، لإنتاج 90% من احتياجاتنا من الدواء، ويتم استيراد  10% فقط من هذه الاحتياجات، ونهدف الى تحقيق الاكتفاء الذاتى، لأن الانسولين من الأدوية الحيوية الهامة.. فنسب الاصابة بالسكر فى مصر تصل لـ  15.5%، طبقًا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، ولدينا خمسة وخمسين ألف طفل مصاب بالسكر فى مصر.
من بين ما نشرته Independent، قول أحدهم، وهو رجل خمسيني، (أجوب أسبوعيًا عديدًا من الصيدليات المجاورة لمنزلي للعثور على تلك الأدوية، أضطر كثيرًا للاستعانة بأصدقائي المقربين وأفراد أسرتي، من أجل مساعدتي في الحصول على الدواء في محيطهم، أو اللجوء إلى تطبيقات الدواء ومنصات التواصل الاجتماعي للعثور عليها).. وفي حكايات مرضى السكري في مصر من أجل الحصول على الأنسولين، أوضح الرجل، أنه اعتاد أن يقطع أكثر من خمسة وثلاثين كيلومترًا، من مدينة طوخ في محافظة القليوبية شمال القاهرة، وصولًا إلى صيدلية الإسعاف الحكومية بوسط القاهرة، أملًا في العثور على جرعات الأنسولين، التي يحتاج إليها بصفة مستمرة، واللازمة لعلاج مرض السكري، الذي أصابه قبل نحو تسع سنوات.
وعلى رغم مشقة الطريق ولهيب الشمس الحارقة، لم يجد الرجل وسيلة أخرى، سوى اللجوء إلى تلك الصيدلية الكبرى، بعد أن فقد أمل الحصول على أنواع أدوية الأنسولين، في عديد من الصيدليات المجاورة لمحيط منزله والمناطق القريبة منه، مما اضطره إلى الاستجابة لنصيحة أحد أصدقائه المقربين بالذهاب إلى تلك الصيدلية، التي تضم عديدًا من الأدوية الناقصة في السوق المحلية، للحصول على جرعات الدواء التي يحتاجها.. ويقضي الرجل الخمسيني، أغلب وقته في هذا المشهد المتكرر الذي اعتاده أسبوعيًا من أجل الحصول على دوائه، وسط زحام وطوابير طويلة، من الرجال والنساء والأطفال الذين ينتظرون الحصول على جرعات الدواء المطلوبة.
وكان رئيس هيئة الدواء، الدكتور على الغمراوي، أعلن أواخر يوليو الماضي، أن مصر تستهلك نحو ثلاثمائة وخمسين ألف عبوة من الأنسولين شهريًا، وقد يصل الاستهلاك إلى خمسمائة ألف عبوة كحد أقصى.. وخلال من أغسطس إلى ديسمبر، سيكون هناك أكثر من خمسة ملايين عبوة من الأنسولين المستورد من الخارج، إضافة إلى الإنتاج المحلي، لتلبية حاجات السوق، وأنه يجري اتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد أي صيدلية تبيع الأدوية بأسعار أعلى من التسعيرة المعلنة، التي قد تصل إلى حد الغلق.. وهو ما قالت به عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، الدكتورة إيرين سعيد، إن بعض الصيدليات استغلت أزمة نقص الأنسولين في السوق المحلية خلال الفترة الماضية، وخزَّنت كميات كبيرة منه، للاستفادة من بيعه للمواطنين بأسعار أعلى من كُلفتها الحقيقية، وأن عديدًا من المواطنين كانوا يلجأون إلى السوق السوداء، ومنصات التواصل الاجتماعي لشراء الدواء بأي سعر، نظرًا إلى حاجتهم المُلحة إليه، منوهة إلى أن أغلب الأدوية الحيوية، ومن بينها أدوية الأورام، يتم بيعها بأسعار باهظة في الوقت الراهن.
●●●
وبالعودة إلى ما قاله الدكتور خالد عبد الغفار، فإن مصر تنفق ثلاثة مليارات جنية سنويًا على الأمراض (المُزمنة)، وتم إنشاء مائة وخمسة وسبعين مركزًا لعلاج السكر، و(لدينا متخصصين لعلاج المرض، ومراكز متخصصة لعلاج السكر بشكل مجانى، ونحتاج سبعة عشر مليون جرعة سنويًا، بينما ننتج حوالى إثنى عشر مليون جرعة، قبل أن يتم إنتاج الانسولين في المصنع الجديد بمصر).. لن يكون هناك احتياج للأنسولين بعد إنتاجه محليًا، لأن الشركة المنتجة للانسولين حققت انجازات كبيرة فى إنتاج معظم الأدوية الحيوية، ولديها منتجات حيوية من أدوية الايدز، وكورونا، والأدوية البيولوجية، وحاليًا تم إنتاج الانسولين، كما أنها تُطور من منتجاتها، لأننا لا نقف على فكرة التصنيع فقط، ولكن أيضا تطوير المُنتج، من خلال توفير البنية التحتية، من العلماء والباحثين والمراكز البحثية، لتطوير منتجات جديدة، ويكون مصدر التطوير هو مصر، و(نحتفل اليوم بالانجاز القومى، وتوفير الدواء، لأن الدواء هو أمن قومى وخصوصًا أدوية السكر).
لقد كان إطلاق أول دفعة من الأنسولين المحلي Glargin ممتد المفعول، بالتعاون بين شركة (إيفا فارما) المصرية، وشركة (إيلي ليل) العالمية، علامة فارقة، إذ يتم، للمرة الأولى، إنتاج الأنسولين كأقلام داخل مصر، بعدما كان يُنتج في السابق على شكل حُقن فقط.. هذا الإنجاز يعكس قدرة مصر على صناعة الأدوية الحيوية محليًّا، وتلبية احتياجات السوق المصرية من الأنسولين، بعد أن كانت هذه الصناعة تعتمد في السابق على الاستيراد بشكل كبير، في ظل معاناة ما يزيد على 15% من المواطنين من مرض السكري، مما يجعل توفير الأنسولين المحلي ضرورة ملحة لتلبية احتياجات المرضى.. ليس ذلك فحسب، بل إن هناك فرقًا ملحوظًا بين أسعار الأنسولين المستورد والمحلي، إذ تُسهم هذه الخطوة في تحسين الوضع الاقتصادي، وتقليل العبء المالي على المواطنين، خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار الأدوية المستوردة.. كما أن تصنيع الأنسولين محليًّا، سيساهم في تقليل الاعتماد على العملات الأجنبية، وبالتالي تقليص فاتورة استهلاك العملة الصعبة، إضافة إلى توفير الأنسولين بأسعار أقل بكثير مقارنة بالمنتجات المستوردة.
وطبقًا للرئيس التنفيذي لشركة إيفا فارما، رياض أرمانيوس، فإن قدرة خط الإنتاج الجديد الإنتاجية من الأنسولين، تبلغ نحو ثمانين مليون عبوة سنويًا، وتستهدف الشركة تصدير ما قيمته مائة مليون دولار سنويًا من علاج الإنسولين في 2030، (نحتفل اليوم بإطلاق نوع مميز من الإنسولين ممتد المفعول والأكثر أمانًا.. وتستطيع القدرة الإنتاجية للمصنع، تغطية الفجوة الإنتاجية المطلوبة في مصر، بل وفي قارة إفريقيا بالكامل، تشمل إمكانية التصدير إلى تسعة وخمسين دولة في العالم، وسيصل إنتاجنا الجديد، خلال أيام، إلى ثلاث دول، من بينها ليبيا وأوغندا، بعد توفير الإنسولين لمليون شخص، لم يكن لديهم إمكانية الوصول للعلاج.. فيما قال رئيس هيئة الدواء المصرية، إن فاتورة استيراد علاج مرض السكر، منذ بداية 2024 حتى سبتمبر الماضي، بلغت ثلاثين مليون دولار.. وهنا، فإن توطين إنتاج العلاج لن يخفض فقط فاتورة الاستيراد فقط، بل سيحول مصر إلى دولة مُصدرة للإنسولين.
لم يكن الأنسولين، والعديد من الأدوية التي نستوردها، هي الشغل الشاغل وحده للقيادة السياسية المصرية، بل إن الاستراتيجية الوطنية لتصنيع وتوطين اللقاحات في مصر استهدفت تعزيز الإنتاج المحلي للقاحات وتقليل الاعتماد على الواردات، مما يساهم في تحسين الوضع الصحي والاقتصادي للبلاد، فضلًا عن فتح أبواب التصدير  إلى الدول الإفريقية الشقيقة، بما يعزز مكانة مصر الإقليمية والدولية.. ومنذ جائحة المرض الفيروسي كورونا Covid 19، عام 2019، جاءت صياغة الاستراتيجية، عبر التعاون مع كافة الجهات المعنية، وتضمنت تشكيل التحالف المصري لمصنعي اللقاحات EVMA، كذراع استراتيجي لتنفيذها، بالشراكة مع القطاعين العام والخاص، وتحت إشراف وزارة الصحة والسكان، وهيئة الشراء الموحد وهيئة الدواء المصرية.. هذه الاستراتيجية تستند إلى محاور رئيسية، تشمل التعاقدات طويلة الأجل، وتقديم حوافز مالية مثل الإعفاءات الضريبية، وإنشاء منصة للتعاون بين الشركات المحلية لتجنب التنافس غير الصحي، وتتضمن مستهدفات قصيرة المدى، تتمثل في توطين 50% من إنتاج اللقاحات محليًا، ونقل التكنولوجيا وفق اتفاقيات تم توقيعها، إلى جانب الحصول على اعتماد منظمة الصحة العالمية WHO PQ، لأربعة لقاحات بحلول عام 2030.. أما المستهدفات متوسطة المدى، فتشمل توطين 75% من إنتاج اللقاحات بحلول عام 2035، مع تطوير شراكات بحثية واعتماد أربعة لقاحات إضافية.. وتشمل المستهدفات طويلة المدى، تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل بنسبة 100% بحلول عام 2040، وتعزيز مكانة مصر كمركز إقليمي لإنتاج وتصدير اللقاحات، وزيادة الصادرات بنسبة 50% مع فتح أسواق جديدة.
هذا، ويستهدف الدور الاستراتيجي للتحالف المصري لمصنعي اللقاحات EVMA، تنمية القدرات الوطنية، من خلال تأسيس مركز تدريبي إقليمي، لتأهيل الكوادر المصرية والإفريقية في التصنيع الحيوي، كما يهدف التحالف إلى تعزيز تنافسية مصر، كمركز تدريبي معتمد لإفريقيا، ودعم الابتكار، ووضع استراتيجيات فعالة لدخول الأسواق الإفريقية، فضلًا عن مساعدة الشركات للحصول على اعتماد منظمة الصحة العالمية.. وفي هذا الصدد، فإن التعاون المشترك بين الجهات المعنية، سيؤدي إلى نقل التكنولوجيا والمعرفة العالمية، ويُعد الأول من نوعه في المنطقة وإفريقيا، إذ أن دعم الصناعة الصحية، يمثل أولوية في خطة الإصلاح الاقتصادي للدولة المصرية، مما يتيح لمصر التحول من مستهلك للتكنولوجيا إلى منتج لها، وزيادة فرص التصدير إلى أسواق القارة السمراء.
●●●
إن ما لا يمكن إغفاله، هو اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسي، بصحة المواطنين وتخفيف الأعباء الاقتصادية التي تتكبدها الأُسر المصرية.. فالأنظمة الصحية عالميًا واقليميًا، تواجه متغيرات مُتسارعة وأزمات متلاحقة، تستوجب الجاهزية وسرعة التكيف والمرونة، مع تحقيق العدالة والكفاءة لتلبية الاحتياجات الصحية للمجتمعات، تنفيذًا لأهداف الأمن الصحي والتغطية الصحية الشاملة، وهو ما يُبرز دور مفهوم الاقتصاديات المُطبقة في مجال الصحة، والتي تعرف بـ (اقتصاديات الصحة)، في وقت يشهد فيه العالم تغيرات سريعة تؤثر على مصادر التمويل الصحي، وتجعل الإدارة المثلى، عملية غاية في التعقيد.. إن العالم يشهد تغيرًا في الوضع الوبائي للأمراض المُعدية، وغير المُزمنة، بالتوازي مع التطورات المتسارعة في التقنيات الطبية، فضلًا عن تزايد احتياجات، وتطلعات مُتلقى الخدمات الصحية، إذ يأتي ذلك في إطار أزمة مالية، واقتصادية شديدة تعاني منها اقتصاديات جميع الدول.
وتلعب السياسات الصحية دورًا بارزًا في تطور الدولة الحديثة، من خلال محورين أساسيين: أولهما تقديم الخدمة العلاجية، من خلال منشآت مُمولة من إيرادات الخزانة العامة، وثانيهما، الحرص على تقديم هذه الخدمات بأقل تكلفة ممكنة أو بدون مقابل.. وقد لا يحل ضخ الأموال في النُظم الصحية جميع المشاكل.. ووفقًا لأحد تقارير منظمة الصحة العالمية، فإن ما بين 20 إلى 40% من النفقات الصحية، يتم فقدها نتيجة الهدر ونقص الكفاءة.. لذلك، من المهم ضمان إنفاق الموارد المالية بكفاءة، وشفافية، من أجل تقديم المزيد من الخدمات ذات الجودة لجميع السكان، وعلى وجه الخصوص، للمجموعات المُعرضة للخطر الصحي أو المالي، واتضح أن النظام الأكثر كفاءة، هو النظام الذي يُمكنه علاج المزيد من المرضى، وزيادة مستوى التغطية، والتأكد من عدم ترك أي شخص دون علاج، في ضوء الموارد المتاحة.. وهنا، فإن الدولة المصرية قامت على تنفيذ مجموعة من التدخلات والمبادرات الصحية القائمة على الأدلة، بما في ذلك تعزيز النُظم الصحية، وزيادة الوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة لكل المواطنين، حيث أفادت الدراسات الاقتصادية الخاصة بالمبادرات الرئاسية، التي تتبنى مبدأ الكشف والعلاج المبكر، بأن المعدلات العائدة على الاستثمار مرتفعة، ومنها مبادرة رئيس الجمهورية للقضاء على فيروس C، والتي فحصت أكثر من ثلاثة وستين مليون مواطن، نجحت في اكتشاف وعلاج أكثر من أربعة ملايين مريض.
لقد أدى التشخيص المبكر لهذه الحالات ومعالجتها، إلى توفير ما يقرب من ستة عشر مليار جنيه مصري في التكاليف الطبية المباشرة، ونتج عن هذه المبادرة تفادي قرابة سبعة مليارات جنيه خسائر إنتاجية، بسبب انخفاض الوفيات المبكرة المرتبطة بأمراض الكبد، بين السكان الذين تقل أعمارهم عن ستين عامًا، وأصبحت المبادرة نموذجًا فريدًا في الوصول إلى أعلى قيمة صحية مقابل التكلفة، كما أدت إلى تأصيل الاعتماد على التقييم الاقتصادي بشكل كبير في توجهات النظام الصحي المصري، لتقييم العديد من التدخلات المشابهة.
●●●
ولعل شهادة د. وليام هاسلتين، أستاذ علوم الجينوم والطب التجديدي، بعنوان (كيف قضت مصر على فيروس سي في أقل من عام؟) How did Egypt eliminate hepatitis C in less than a year?، التي نشرها في مجلة Forbes العالمية، قبل أكثر من عام، توضح تميُّز التجربة المصرية في مواجهة جائحة، عجزت العديد من الدول عن مواجهتها بالشكل الصحيح، مثلما فعلت مصر، حيث يقول الدكتور ويليام، لقد أعلن كل من البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، أن مصر نجحت في القضاء على التهاب الكبد الوبائي C، بين سكانها بالكامل.. ولكن كيف تم ذلك؟.. ولماذا لم يتم ذلك في الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى بغض النظر عن الدخل؟.
إن تحليلنا للبرنامج المصري، يشير إلى وجود ثلاثة حواجز رئيسية، تحول دون القضاء على التهاب الكبد الوبائي C.. وأهم هذه الحواجز، هي الإرادة السياسية.. أما الثاني، فهو تنظيم أنظمة الصحة العامة لتنفيذ البرنامج.. وأخيرًا، تكلفة الاختبارات التشخيصية والعلاج.. وهنا نقدم بعض التفاصيل عن حملة (100 مليون صحة) التي أطلقتها مصر، والتي أسفرت بفضل قرض متواضع من البنك الدولي، عن القضاء على التهاب الكبد الوبائي C، بعد أن أصبحت مصر، الدولة الأكثر إصابة بهذا الفيروس.. لقد أصيب العديد من الناس في مصر بالفيروس في طفولتهم.. وخلال برنامج التطعيم الشامل ضد داء البلهارسيا، تم تطعيم الأطفال بأدوية مضادة لداء البلهارسيا باستخدام إبر ملوثة.. وبعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من الحملة، أدركت مصر أن مشاركة الإبر المستعملة، كانت تنقل الفيروس بسرعة، وأنهت الحملة.. وبحلول ذلك الوقت، كان ما يقرب من 15٪ من السكان قد أصيبوا بالعدوى.. وكانت العواقب الطويلة الأجل لهذا، ارتفاع معدل الإصابة بأمراض الكبد الخطيرة، وأحد أعلى معدلات الإصابة بسرطان الكبد في العالم.
واستجابة للانتشار الواسع لالتهاب الكبد الوبائي C، صممت الحكومة المصرية برنامج )100 مليون صحة(، وتم تمكين الحملة من خلال قرض بقيمة مائتين وخمسين مليون دولار تقريبًا، تم تشكيل البرنامج لمدة سبعة أشهر، تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأدارته وزارة الصحة المصرية، وتم تصميم الخطط التفصيلية وتنفيذها.. كان الهدف الطموح، فحص وعلاج جميع سكان مصر، الذين تزيد أعمارهم عن إثنى عشر عامًا، بما في ذلك السجناء وفي الجيش، من الالتهاب الكبدي.. وكانت الحملة المصرية، برنامجًا عالميًا، أُنشيء في مختلف أنحاء البلاد، وجسدت التزام الرئيس السيسي بالقضاء على الفيروس.. وبفضل قدرة مصر على تنظيم جهودها في مختلف أنحاء البلاد، أصبحت الحملة، أكبر حملة فحص طبي حتى الآن.. وقد اتبع البرنامج سلسلة من ست خطوات بسيطة، ولكنها فعالة للغاية.
كانت الخطوة الأولى، تنظيم مجموعات الفحص.. وفي هذه المرحلة من البرنامج، استهدفت الحكومة المواطنين الذين تبلغ أعمارهم ثمانية عشر عامًا أو أكثر، لكنها توسعت لاحقًا في البرنامج ليشمل من تزيد أعمارهم عن إثنى عشر عامًا.. وكانت الخطوة الثانية، دعوة المواطنين لإجراء الفحص.. وقد استخدمت الحكومة العديد من السبل الترويجية، بما في ذلك حملة إعلامية جماهيرية ووسائل الإعلام المطبوعة، لنشر البرنامج وتشجيع الناس على إجراء الفحص.. أما الخطوة الثالثة، فهي فحص خمسين مليون مواطن، اختاروا إجراء اختبار الفيروس للتأكد من إيجابية المصل.. وتمكن المواطنون من تسجيل المواعيد على موقع الحملة المركز، وإجراء الاختبار في أحد آلاف مراكز الاختبار والوحدات المتنقلة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد.. وأسفرت اختبارات الأجسام المضادة، عن طريق وخز الإصبع، عن نتائج في أقل من عشرين دقيقة وتم تحميلها على الفور على الموقع المركزي.
بدأت الخطوة الرابعة بتحديد عدد الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بأجسام مضادة للفيروس، والذين أصيبوا بعدوى نشطة.. وتم إحالة الأشخاص الذين ظهرت عليهم نتائج إيجابية للأجسام المضادة، إلى مراكز اختبار متخصصة لإجراء اختبار PCR التأكيدي.. وقد أنشأت الحكومة المصرية العديد من مراكز الاختبار في جميع أنحاء البلاد، وتمكن بعضها من إجراء ما يقدر بنحو ستة وثلاثون ألف اختبار يوميًا.. وكانت الخطوة الخامسة، توفير العلاج المجاني لمدة ثلاثة أشهر للمصابين بالعدوى النشطة.. وفي المتوسط، تمت الموافقة على العلاج في غضون أسبوع من تأكيد Polymerase Chain Reaction، وتم توزيعه في مراكز متخصصة في علاج التهاب الكبد الوبائي C.. ومن بين 1.6 مليون بالغ مُصاب بعدوى نشطة للالتهاب، قبل 1.47 مليون منهم العلاج الحكومي المجاني، أو اختاروا العلاج الخاص مقابل سبعين دولارًا.. وللتأكد من شفاء من تلقوا العلاج، كانت الخطوة الأخيرة، هي إعادة فحص هؤلاء.. وبعد ثلاثة أشهر من العلاج، أُعيد تقييم الأفراد، للتأكد من شفائهم من المرض، بإجراء اختبار Polymerase Chain Reaction الإضافي.. ثم تم منح من جاءت نتائج اختباراتهم سلبية شهادة شفاء.. وفي نهاية الحملة، تم شفاء ما يقدر بنحو 1.23 مليون مواطن مصري مُصاب بعدوى نشطة لالتهاب الكبد الوبائي C.
كان أهم العوامل الرئيسية المساهمة في نجاح برنامج مصر، كما يقول د. ويليام، هو الإرادة السياسية لقيادة البلاد، في القضاء على التهاب الكبد الوبائي C.. وبفضل الدعم القوي من الرئيس السيسي ووزارة الصحة، فإن تفاني مصر في القضاء على المرض، جعل البلاد متلقيًا مثاليًا للشراكة التعاونية بين الحكومة المصرية والبنك الدولي.. ولتوضيح التزام البلاد بالقضاء على المرض، بذلت الحكومة جهدًا كبيرًا لضمان معرفة الجميع، بأن البرنامج يتمتع بالدعم الكامل من الرئيس السيسي ووزارة الصحة.. غمرت الإعلانات عن الحملة البلاد، عب كل الوسائل والوسائط.. وشجعت الإرادة التي أظهرتها حكومة مصر، الملايين من مواطنيها على المشاركة في البرنامج، وجعلت حملة (100 مليون صحة)، واحدة من أكبر برامج الفحص الصحي في العالم.
●●●
إن الحاجز الثاني، الذي تواجهه أغلب البلدان في القضاء على التهاب الكبد الوبائي C، هو الحاجة إلى التنظيم المُنسق.. وقد أصبح برنامج المليون حياة صحية ممكنًا، من خلال خلق تدفق قوي من الأفراد، من الفحص إلى العلاج.. وبالإضافة إلى إنشاء أكثر من ثمانية عشر ألف مركز اختبار في جميع أنحاء البلاد، أنشأت الحكومة أيضًا أكثر من ألف مركبة اختبار متنقلة، ودربت أكثر من ستين ألف موظف مُتحمس.. وتألف كل موقع اختبار من طبيب شاب وممرضة ومتخصص بيانات، وعدة أعضاء مُدربين حديثُا، من المجتمعات المحلية.. وقد مكّن عدد الموظفين والتوزيع الواسع لمراكز مكافحة الفيروس، من الوصول إلى جميع المواطنين المستهدفين البالغ عددهم خمسين مليون مواطن، بما في ذلك 57% الذين يعيشون في المناطق الريفية.. كما استخدمت الحكومة شبكة خاصة افتراضية داخل خدمتها الصحية الوطنية، للإبلاغ عن جميع نتائج الحملة في الوقت الحقيقي. وتمكن مسئولو البرنامج، من تتبع عدد الأشخاص الذين تم فحصهم، وما هو توزيع الأعمار، ونسبة السكان المغطاة.. كما سمح نظام التنظيم المركزي بفحص أمراض الصحة العامة الأخرى في مصر، بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم والسكري والسمنة.. ووفرت الجهود التنظيمية في مصر، نموذجًا ممتازًا لفحص ومعالجة قضايا الصحة العامة بين جميع فئات السكان.
إن التكلفة العالية التي تحول دون القضاء على التهاب الكبد الوبائي C، تشكل عائقًا كبيرًا بالنسبة لأغلب البلدان.. ​​وقد اعتمد نجاح البرنامج المصري على قدرة حكومته على التحكم في تكاليف التنفيذ والتشخيص والأدوية.. وللسيطرة على التكاليف التنظيمية، تمكنت مصر من نشر قدر كبير من البنية الأساسية القائمة داخل نظامها المركزي للرعاية الصحية.. كما تمكنت الحكومة من إنشاء مراكز الاختبار وتدريب موظفيها وإنشاء موقعها الإليكتروني المتخصص في مجال مكافحة الفيروس.. وكل هذا بتكلفة منخفضة.
وتضمن برنامج مصر عدة نقاط اختبار، بما في ذلك اختبار إيجابي المصل السريع، واختبار Polymerase Chain Reaction للعدوى النشطة، واختبار Polymerase Chain Reaction الثانوي، للتحقق من خلو الجسم من المرض.. وفي حين أن هذه الاختبارات أغلى بنحو عشرة إلى مائة مرة في الولايات المتحدة، فقد تمكنت الحكومة المصرية من خفض تكاليف التشخيص إلى سعر أقل بكثير.. وخلال البرنامج، تمكنت مصر من توفير اختبارات الأجسام المضادة مقابل ستة وخمسين سنتًا واختبارات Polymerase Chain Reaction مقابل خمسة دولارات أمريكية فقط.. ويمكن أن تكلف نفس هذه الاختبارات في الولايات المتحدة حوالي عشرين دولارًا لاختبار الأجسام المضادة السريع، وما يصل إلى ثلاثمائة دولار لاختبار Polymerase Chain Reaction.
على الصعيد الدولي، تتوفر العديد من أدوية التهاب الكبد الوبائي C، بتكاليف أقل، من خلال أنظمة الطبقات الصيدلانية.. وتتوفر مضادات الفيروسات ذات التأثير المباشر مقابل ما بين إثنين وعشرين ألف دولار إلى سبعة وثمانين ألف دولار في البلدان ذات الدخل المرتفع، وستة آلاف دولار في البلدان ذات الدخل المتوسط، وتسعمائة دولار في البلدان ذات الدخل المنخفض.. ولكن من أجل نجاح برنامج مصر، كانت الحكومة المصرية في حاجة إلى خفض أكبر في التكاليف.. لذا، فقد أعلنت الحكومة أن عبء تكاليف أدوية التهاب الكبد الوبائي C، يساهم في وضعه المتوطن.. وقد أعفى هذا البلاد من حماية براءات الاختراع للأدوية، وفقًا لاتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة لحقوق الملكية الفكرية.. ثم تمكنت مصر من شراء المكونات الصيدلانية الفعالة، لسبعة مضادات فيروسات ذات تأثير مباشر مختلفة من الهند، حيث يمكن أن يكلف العلاج ما بين خمسة وعشرين إلى خمسة وثلاثين دولارًا أمريكيًا.. ثم قامت شركات الأدوية المصرية بتركيب هذه المواد.. وقد سمح هذا للبرنامج، بتوفير العلاج المجاني لجميع مواطنيها بتكلفة خمسة وأربعين دولارًا للحكومة المصرية.. كما سمحت هذه الجهود لأولئك الذين اختاروا العلاج الخاص، بدفع سبعين دولارًا فقط.. وعلى سبيل المقارنة، قد تكلف نفس أنظمة العلاج مواطن الولايات المتحدة ما بين أربعة وعشرين ألف دولار إلى أربعة وثمانين ألف دولار.. وفي المجمل، كلف جزء الاختبار والعلاج من برنامج (100 مليون صحة)، الحكومة المصرية حوالي مائتين وسبعة ملايين دولار، أو حوالي مائة وأربعة وثمانين دولار للشخص الواحد.
ويتساءل د. ويليام: ما الذي جعل برنامج (100 مليون صخة) فعالًا إلى هذه الدرجة؟.
وبحسب تقرير التحقق الصادر عن منظمة الصحة العالمية، فإن نجاح الحملة تحقق من خلال ستة عوامل رئيسية، أولها، إنشاء لجنة متخصصة لدعم المبادرات الوطنية في مجال الصحة العامة.. وفي عام 2018، شكلت وزارة الصحة مثل هذه اللجنة لغرض وحيد، هو تصميم البرنامج والإشراف عليه، ومنح التخصيص المناسب للموارد.. أما الخطوة الثانية، فكانت التزامها بتحديث الاستراتيجيات الصحية الوطنية استنادًا إلى أولوياتها الوطنية.. وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، وضعت الحكومة المصرية خطة عمل للقضاء على التهاب الكبد الوبائي C، وحددت بشكل فعال أهدافها ووسائل تحقيق هذه الأهداف.. وثالثًا، قامت مصر بمراجعة وتحديث التشريعات واللوائح الوطنية ذات الصلة بالمرض، الأمر الذي مكَّن الحكومة من استدامة إنجازاتها.. وكان العامل الرئيسي الآخر، هو قدرة البرنامج على التمويل وتوفير الموارد اللازمة للاستدامة.. فقد مكَّنت قدرة مصر على حشد مواردها البشرية، من خلال إجراء تدريب واسع النطاق، وتطوير إجراءات تشغيلية قياسية للفحص والعلاج، البرنامج من خدمة المواطنين على قدم المساواة في جميع مناطق البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، تمكنت مصر من خلال ضمان وجود سياسة وطنية لاستخدام وشراء الأدوية، من خفض تكاليف أدوية العلاج بشكل كبير، وهي الآن تمتلك أكبر حصة في صناعة الأدوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. وأخيرًا، أنشأت الحكومة آليات مثل الخط الساخن لاستقبال المرضى، والذي سمح بالتعديل والتحسين المناسب والسريع والمستمر للبرنامج.. إن مواصفات البرنامج المصري ليست سرية، وقد تم وصفها بالتفصيل في الأدبيات الطبية والعلمية،بما في ذلك مجلة New England الطبية.. كما تم التحقق من نجاحه مؤخرًا، من قِبل منظمة الصحة العالمية، في تقريرها الذي يوضح بالتفصيل إنشاء البرنامج وتنفيذه ونجاحه.. يتمتع (برنامج 100 مليون صحة) في مصر، بإمكانية القضاء على التهاب الكبد الوبائي C، بالإضافة إلى تحديد مشكلات صحية خطيرة أخرى، بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم والسكري والسمنة.. والسؤال المتبقي هو: لماذا لا يتم إنشاء برامج مماثلة في بلدان أخرى، ذات دخل مرتفع ومتوسط ​​وحتى منخفض؟.. هكذا تساءل د. ويليام، الذي وعد بالحديث عن تأثير البرنامج المصري في سياسة مكافحة الأمراض، في الولايات المتحدة الأمريكية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق