حدود الذكاء الاصطناعي.. وآفاق عصر التنوير

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
العلوم بمختلف اتجاهاتها في تطور مستمر، والمراكز البحثية تعمل ليلا نهارا، والجامعات لا تكاد تخلو من الأطروحات الأكاديمية المتتابعة، حتى المعامل والمختبرات تزف لنا في كل يوم تجارب ودراسات جديدة، والمنظمات الربحية وغير الربحية كذلك، حتى أصبح العالم يستقبل كل يوم ابتكارات متنوعة المجالات، واكتشافات علمية ومنتجات بحثية متعددة الأغراض، وكأنه في سباق مع نفسه للوصول إلى المستقبل بأقصر وقت.

لكن ما هذا المستقبل الذي نتجه إليه مع ما يسمى بـ"الذكاء الاصطناعي"، والذي أصبح العلامة الفارقة في جميع ما سبق ذكره، إذ إنه دخل في صناعة وتطوير جميع البحوث والدراسات والتقنيات وسهل على جميع الممارسين في كل المجالات أعمالهم، بل أنه دخل في تفاصيل حياتنا اليومية كمساعد شخصي يقدم الحلول بشكل لا نهائي، وكأنه يقول إن المرحلة المقبلة ما هي إلا امتدادٌ لي أنا كأعظم إنجاز عرفته البشرية.

وعلى هذا الأساس يبرز سؤال طبيعي: من كان يتخيل أن شرارة عصر النهضة التي أشعلها الإيطاليان جيوردانو برونو وجاليليو جاليلي، - الأول أُدين بالهرطقة ومن ثم أُحرق حيا بسبب أفكاره العلمية حول الكون، والثاني حُكم عليه بالإقامة الجبرية بسبب معارضته للأفكار التقليدية السائدة آن ذاك حول مركزية الأرض -، ستقود العالم اليوم إلى تكامل العلوم لتنتج ما يسمى بالذكاء الاصطناعي؟

نعم، منذ نحو 8 قرون، دخل العالم في عصر النهضة، الذي أعاد وطور العلوم التي سبق أن قدمتها الحضارة الإسلامية وما سبقها من حضارات أخرى كالإغريقية، لتشهد أوروبا في القرنين الخامس والسادس عشر نهضة في الفنون والعلوم، ليزدهر الفكر الإنساني من جديد ويركز على قدرات الإنسان وإمكاناته، مما أدى إلى ظهور نظريات وعلوم جديدة.

تلى ذلك عصر التنوير، الذي دشن في القرن الثامن عشر حركة فكرية فلسفية، ركزت على استخدام العقل والعلم لتعزيز الفهم، بعد أن سعى مفكرو التنوير إلى تطبيق مبادئ العقلانية في جميع مجالات الحياة، وكان من أبرز مفكري ذلك العصر جان جاك روسو، وفولتير، وجون لوك، وفولتير وديفيد هيوم وغيرهم، ممن ساهموا بشكل كبير في تأسيس الفكر الحديث، عبر عدة نظريات منها فصل السلطات، والحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي، والتجربة والعلم، والاقتصاد الحر، وتطوير الفلسفة التجريبية وصولا إلى الحوسبة التي هي أساس محور حديثي هذا اليوم "الذكاء الاصطناعي".

الحوسبة تتميز بتاريخ طويل ومعقد، ويمكن تتبع جذورها إلى ما قبل عصر التنوير، لكنها بدأت تتشكل بشكل واضح بعد عصر التنوير، ففي القرن التاسع عشر، قام تشارلز باباج بتصميم ما يعتبر أول حاسوب ميكانيكي، المعروف بـ"الآلة التحليلية"، على الرغم من أنها لم تكتمل، وفي القرن العشرين قام العالمان آلان تورينج وجون فون نيومان بمساهمات رئيسية في تطوير الحوسبة، حيث وضع تورينج أسس علوم الحاسوب من خلال مفهوم "آلة تورينج"، بينما ساهم فون نيومان في تطوير هندسته، بالاعتماد على الرياضيات والمنطق.

وخلال الحرب العالمية الثانية تم تطوير أول حواسيب الكترونية رقمية لأغراض عدة مثل حاسوب "كولوسوس" البريطاني، الذي صُمم لفك الشفرات الألمانية، ليشهد العالم بعد ذلك تطورا سريعا في هذا المجال، وبعد ذلك اُخترع "الترانزيستور"، مما أدى إلى تقليل حجم الحواسيب وزيادة قدرتها، حيث أسهمت علوم الرياضيات والمنطق في ذلك، فيما كان للفيزياء تأثير مهم من خلال نظريات النسبية وميكانيكا الكم التي طورت الحوسبة الكمية.

ومع الانتقال إلى الحواسيب الشخصية في السبعينيات والثمانينيات، التي بدأت في الانتشار مما جعل الحوسبة جزءا أساسيا من الحياة اليومية، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة مع ظهور الإنترنت في التسعينيات، حيث دخلنا عصر ثورة المعلومات، وتطورت تقنيات الحوسبة بشكل هائل، مما أدى إلى انتشار الأجهزة الذكية.

إذًا، يمكننا القول إن الحوسبة تطورت بناء على مجموعة من العلوم، وتاريخها متجذر في الابتكار البشري عبر القرون، مع تأثيرات من مختلف العلوم، وهو ما أنتج مع مرور السنوات أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تعتمد على تقنيات عدة مثل البيانات الضخمة التي تعد قاعدة أساسية يمكن الوصول إليها بسرعة البرق من خلال التطور الهائل في سرعة المعالجة وتطبيقات التعرف على الصوت والصورة، مما مكن المستخدم من تحديد ما يريد من معلومات وخدمات والحصول عليها خلال أجزاء من الثانية.

إن التقدم العلمي والتقني اليوم يُعد امتدادا لروح عصر التنوير، الذي وضع الأسس للفكر النقدي والعقلاني، وشجع على استخدام العلم كوسيلة لفهم العالم وتحسينه، والذكاء الاصطناعي يمكن اعتباره تجسيدا لروح التنوير في السعي لفهم وتحسين العالم من خلال العلم، فالتكنولوجيا الحديثة تعتمد على المبادئ العلمية والعقلانية، والتي تعود جذورها إلى عصر التنوير.

كما أن التطورات السريعة في تحسين أداء الذكاء الاصطناعي تعكس الاستمرار في السعي لفهم الظواهر المعقدة وتطبيق المعرفة العلمية لتحسين حياة البشر، ليصبح مع مرور الوقت، جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.

أتوقع ألا يتوقف الأمر عند ذلك، بل سيستمر الذكاء الاصطناعي بالتطور في المستقبل، مما قد يؤدي إلى مزيد من التكامل بينه وبين الإنسان، متجاوزا أي تحديات أخلاقية واجتماعية جديدة، لأنه سيعمل على دفع حدود ما هو ممكن، والوصول إلى نتائج ربما لا تخطر على بال أي أحد منا اليوم، تماما كما فعل عصر التنوير في زمنه، حتى أوصلنا إلى هذه الآفاق

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق