الدكتور نصار عبدالله واحد من أجمل وأرق وأنقى من صادفتهم فى حياتى، تعرفت إليه فى بداية استقرارى بالقاهرة منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وسط نخبة من رموز ذلك الزمن، الشعراء والكتّاب والنقاد الكبار فتحى سعيد وطاهر أبوفاشا وبدر توفيق ومحمد عفيفى مطر ومحمد مهران السيد ومحمد أبودومة وعبدالمنعم عواد يوسف ويسرى خميس ومحمد سليمان ووليد منير وسليمان فياض ومحمد مستجاب وعبدالوهاب الأسوانى ومصطفى مجاهد وشاكر عبدالحميد ووفيق الفرماوى وغيرهم، بخلاف أبناء جيلى، من الذين يجمعهم مكان أو مكانان للسهر وبالطبع هموم الثقافة المصرية وتطلعاتها بعيدًا عن الفلاشات، كنت أصغرهم سنًا، وأبحث عن الألفة، وخطواتى تتلعثم فى شوارع هذه المدينة القاسية، لكل واحد من هؤلاء حكاية تستحق الكتابة.
كان الدكتور نصار، الذى نحتفل بعيد ميلاده التاسع والسبعين هذه الأيام «مواليد ٢٤ ديسمبر ١٩٤٥»، يسكن فى شارع نوبار، ويقطع الشوارع مشيًا على الأقدام، وكنت أسعد كثيرًا بالمشى معه، لم تفارقه ابتسامته قط، ولا يكف عن السخرية والتبشير بالمواهب الجديدة والأفكار اللامعة.
هو أحد المرحبين والداعمين لى ولكثيرين غيرى فى الوسط الثقافى، الشعر الذى يكتبه يحلّق فى منطقة خاصة به، يبتكر موضوعات وإيقاعات فريدة ينفذ من خلالها إلى قلب الذى أمامه، وكان حين يلقى قصائده فى الندوات العامة، فى معرض الكتاب مثلًا، يستقبله الجمهور بحفاوة بالغة، بسبب رشاقة لغته وخفة ظله واختياراته المنحازة لهموم الناس وأشواقهم.
هو من الجيل الشعرى الستينى الذى انتمى لقصيدة الرواد التفعيلية، ولم يأخذ حقه فى هذا السياق، وظلمه السبعينيون أيضًا كما ظلموا محمد صالح ومحمد فريد أبوسعدة وفتحى فرغلى وآخرين، وأهم ما يميز صاحب «أحزان الأزمنة الأولى» أنه لم يكن مشغولًا بالترويج لنفسه أو لعقد صفقات لهذا الترويج، كان يكتب وينشر فقط، وأشاد الأستاذ نجيب محفوظ بكتاباته أكثر من مرة.
ولد فى البدارى لأسرة معروفة ميسورة الحال، كان من أوائل الثانوية العامة التى حصل عليها فى مسقط رأسه، والتحق بعد ذلك بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى تخرج فيها سنة ١٩٦٦، ثم التحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب ليحصل على ليسانس الآداب فى الفلسفة وعلم النفس سنة ١٩٧١، ثم ماجستير الفلسفة سنة ١٩٧٧، وليسانس الحقوق سنة ١٩٧٨، ثم دكتوراه الفلسفة من كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة ١٩٨٢، ويعمل إلى الآن أستاذًا للفلسفة الأخلاقية فى جامعة سوهاج.
هاتفته قبل يومين، قال لى إنه يتعافى من «كسر فى الحوض»، وإنه يمشى على عكاز رباعى، وراح يسخر من هذا العكاز، ويستدعى قصائد من الشعر القديم وهو يضحك. فى مكالمة سابقة سألته عن الشعر، فقال إن كتابة مقال أسبوعى تستنزف طاقته، وإن الذى حدث له سبقه إليه أحمد عبدالمعطى حجازى، وإنه بعد أن خفت الغضب بداخله لم تعد لديه رغبة فى كتابته، الشعر الذى ترك فيه أثرًا عظيمًا يعرفه محبو الأدب الرفيع، منذ ديوانه الأول «الهجرة إلى الجهات الأربع»، وهو الديوان الذى جمع بين دفتيه التجارب الأولى له ولعمر بطيشة وأحمد سويلم وفرج مكسيم، ثم دواوينه: سألت وجهك الجميل وما زلت أقول، وقصائد للصغار والكبار، وأحزان الأزمنة الأولى.
صادق صلاح عبدالصبور وحجازى وأمل دنقل، واقترب من الشيخ أمين الخولى ولويس عوض ومحفوظ وعبدالغفار مكاوى وميخائيل رومان، وكتب للمسرح «الجفاف»، بخلاف ترجماته الغزيرة فى الفلسفة.
تشعر مع نصار عبدالله بأنك فى بلدك الذى تتمناه، صفاء نادر، استغناء، محبة الخير للآخرين، الفرح بنجاحات الشباب. أفرح حين ألتقيه أو أسمع صوته، وأتذكر الشاب البرىء الذى كنته فى يوم من الأيام. نصار عبدالله شاعر كبير وعالم يعرف فضله تلاميذه فى صعيد مصر، ومترجم بارع وفيلسوف، وإلى جوار كل هذا إنسان بسيط لا يعنيه المجد الذى يشغل بعض الكتاب.
أتذكر دائمًا هذا المقطع من قصيدته «إلى الشاعر الذى لم يعد يكتب إلا للصغار»:
أنت الذى ســمّى الهزيمة بالهزيمةِ،
واستدار لكى يقول العار عارْ
أنت الذى نفض الغبار عن القلوب،
فلم يجد غير الغبار
أنت الذى رفع الستار عن الستارِ،
عن الستارْ…
هتك الإزارَ، فكان أن لا قِبلة ترجى،
ولا قدسُ يزار
أنت الذى ما عاد يكتبُ،
غير للأمل المؤمل فى الصغارْ
ما زال يكتب للصغار لكى يطهّرهم،
من الرجس الذى نسجت،
ملامحَه أكاذيب الكبارْ
أنت الذى ما زال يكتب والبنادق والمدافعُ،
نحو أرضك، نحو بيتك، نحو قلبكَ،
تطلق الكذب الملغـّمَ والملثـّمَ والصريحَ،
وتطلق الكذب القبيح،
وأنت تأبى أن تفرّ، وأنت تأبى أن تموت لتستريح،
وأنت تعلم أن مكسبهم: طوابير من الأزهارِ،
قد أسرت.. وعصفور جريحْ
يا أيها البشر المسيحْ
أنت الذى سمى الهزيمة بالهزيمةِ،
والجريمة بالجريمةِ،
وانحدار الهابطين بالانحدارْ
أنت الذى رغم الحصار
حمل القناديل المضيئة للصغار
حمل الدفاتر والكراريس التى
منها سيبتدئ النهار... وكل سنة وإنت طيب يا دكتور.
0 تعليق