قطعت المملكة العربية السعودية خطوات كبيرة في استراتيجيتها لرؤيتها الطموحة 2030، بهدف تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط. وكان من أبرز الأحداث إعلان ميزانية الدولة للعام المقبل 2025، حيث استمرت المملكة في التوسع في الإنفاق، حيث حددت ميزانية تزيد على 1.2 تريليون ريال، مع توقعات متحفظة للإيرادات، ولم يتجاوز العجز في الميزانية العامة للدولة 2%، وتستمر الحكومة في الإنفاق على قطاعات مختلفة دون إجراء أي تغييرات كبيرة، مما يضمن استمرارية استراتيجيات الدولة تجاه هذه القطاعات ومواءمتها مع التحولات من حولنا. وواصل صندوق الاستثمارات العامة تمويل المشاريع التي تعزز الابتكار، بما في ذلك إطلاق مراكز تقنية جديدة وحاضنات للشركات الناشئة، مما يُظهر التزاما برعاية اقتصاد نابض بالحياة.
وبينما انخفضت الإيرادات النفطية بفضل سياسة أوبك الاستباقية للحفاظ على استقرار السوق، واصلت الإيرادات غير النفطية ارتفاعها، حيث بلغت 472 مليار ريال في 2024 مقابل 458 مليار ريال إيرادات فعلية لعام 2023، بارتفاع 14 مليار ريال بنسبة زيادة 3%.
وتعكس قدرة المملكة على مواصلة هذا الإنفاق أمرين مهمين: الأول أنها واثقة من متانة اقتصادها، وأنها قادرة على استدامة هذا الإنفاق التوسعي دون زيادة الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي أو استنفاد احتياطياتها. والثاني هو التزامها بمواصلة برامج رؤية 2030، واطمئنانها إلى نتائجها الإيجابية على الاقتصاد الوطني.
وفي الجانب الاجتماعي، كان هناك تحول ملحوظ نحو التعبير الثقافي الأكثر انفتاحا وزيادة المساواة بين الجنسين، حيث شهد عام 2024 انفتاح المملكة العربية السعودية بشكل أكبر لأعرافها الاجتماعية، وتعزيز حقوق وأدوار المرأة في المجتمع. ونظمت المملكة العديد من الملتقيات والأحداث الثقافية الدولية، من أبرزها ملتقى صناع التأثير الأول في العاصمة الرياض، والذي لم يكن مجرد شهادة على التطور المتزايد لوسائل الإعلام والترفيه فحسب، بل لتسليطه الضوء أيضا على الدور الهام الذي تلعبه المرأة السعودية في هذه المجالات. وقد أكد هذا الحدث على النهضة الثقافية، مع ازدهار المهرجانات الفنية والموسيقية والأفلام، والتي كانت القوة الناعمة في إعادة تعريف صورة المملكة العربية السعودية العالمية.
وعلى صعيد التقنية، نجحت السعودية في ترسيخ مكانتها كمركز للابتكار التكنولوجي، مع وضع الذكاء الاصطناعي والحوكمة الرقمية في مقدمة أولوياتها. وشكل المنتدى التاسع عشر لحوكمة الإنترنت الذي عقد في الرياض لحظة مهمة في مناقشة الحوكمة الرقمية في عصر الذكاء الاصطناعي. وتم تقديم "إعلان الرياض" بهدف إيجاد بيئة شاملة ومبتكرة ومؤثرة للذكاء الاصطناعي. وأكد المنتدى على المسؤولية المشتركة في الحوكمة الرقمية، وإشراك صناع السياسات والمنظمات الدولية والمجتمعات المحلية. وكان الأمن السيبراني والخصوصية وابتكار المحتوى الرقمي مجالات رئيسية للتركيز، مما يعكس طموح المملكة العربية السعودية لتصبح رائدة في التحول الرقمي.
ولأن الرؤية شاملة وتشمل القطاعات الحيوية كافة، فقد أصبح الترابط بين مشاريعها المختلفة وتكاملها مع بعضها بعضا واضحا، حيث شهدت مشاريع البنية التحتية طفرة غير مسبوقة، وخاصة في مجال التنمية الحضرية. ونرى ذلك واضحا مع سرعة التقدم في إنجاز مشروع البحر الأحمر ومشروع القدية، مما يعد بإعادة تشكيل السياحة والترفيه في المنطقة. وشهد القطاع العقاري طفرة كبرى، ليست فقط في المشاريع الفاخرة، ولكن أيضا في مبادرات الإسكان بأسعار معقولة، بما يتماشى مع هدف الحكومة لتحسين مستويات المعيشة بين مختلف فئات الدخل.
ومع كل ذلك فلا يمكن إغفال اهتمام السعودية بالتنمية المستدامة، حيث أصبحت الاستدامة محورا أساسيا في مشاريع وخطط المملكة، واكتسبت مبادرات مثل مبادرة السعودية الخضراء زخما كبيرا. وشهدت مشاريع الطاقة المتجددة استثمارات كبيرة، بما يتماشى مع الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ. ويعكس التركيز على التخطيط الحضري المستدام في مشاريع المدن الجديدة مثل نيوم، الالتزام بالحفاظ على البيئة إلى جانب النمو الاقتصادي.
لم تتوقف المملكة عند البرامج التي أطلقتها مع انطلاقة رؤيتها، بل سعت إلى تنفيذ العديد من المشاريع والمبادرات في قطاعات السياحة والترفيه والرياضة، وفي الأخيرة تتجلى بشكل خاص دلالات عزم الدولة على تحويل الخطط إلى واقع، ففي غضون سنوات قليلة خطف الدوري السعودي لكرة القدم الأضواء من الدوريات الكروية العالمية، وتحولت أنظار العالم إلى المملكة بعد تقييد القطاع الرياضي وتنشيط دور القطاع الخاص في المنظومة الرياضية. وكان إعلان المملكة العربية السعودية عن استضافة كأس العالم لكرة القدم 2034 أحد أبرز الأحداث في هذا العام، حيث لم يضع هذا الحدث السعودية على خريطة الرياضة العالمية فحسب، بل جعلها تكتسب ثقة عالمية كبيرة من خلال قدرتها على استضافة وتنظيم الأحداث والبطولات العالمية.
ولما لإرادة السياسة في المملكة انعكاسات واضحة على علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى، فقد بنت المملكة على مدى سنوات جسور التواصل مع العالم تحت راية المصالح المشتركة وتبادل القيم. واختتم عام 2024 بزيارة العديد من رؤساء العالم للمملكة، واستمرت هذه الزيارات رفيعة المستوى في عام 2023، حيث استضافت المملكة العديد من القمم الكبرى السياسة والاقتصادية والصحية والبيئية والتقنية، مثل القمة العربية الإسلامية المشتركة، ومؤتمر التعدين، والمنتدى الاقتصادي العالمي، والمنتدى اللوجستي العالمي، والقمة العالمية للبروبتك، وأعمال مؤتمر مستقبل الاستثمار، وملتقى الصحة العالمي، ومؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، والقمة العالمية للذكاء الاصطناعي.
وتتنوع أهداف هذه القمم، وتشمل جوانب سياسية واقتصادية وثقافية وبيئية، إلا أن المملكة تتعامل بنهج واحد مع كل الدول التي تجمعها بها مصالح مشتركة ومنافع متبادلة.
ختاما، لقد كان عام 2024 عاما مليئا بالخطوات الجريئة والإنجازات المهمة للمملكة العربية السعودية، مما مهد الطريق لمزيد من التقدم في رؤيتها الطموحة 2030. وبينما نتطلع إلى عام 2025، فمن المرجح أن يظل التركيز على الحفاظ على هذا الزخم، وضمان استمرار التنوع الاقتصادي والانفتاح الثقافي والابتكار الرقمي، مما يجعل المملكة العربية السعودية منارة للتحول في الشرق الأوسط والعالم الجديد.
0 تعليق