الأحد 29/ديسمبر/2024 - 03:00 م 12/29/2024 3:00:36 PM
تتبنى الدولة العبرية منهجين، تنظر بهما إلى الجماعات الإسلاموية، وكلا المنهجين مُغاير للآخر.. فبينما تدعو إلى معاملة هذه الجماعات في الدول العربية التي يُقيمون فيها، بالاحتواء والتبني، سبيلًا لمنع عنفها، من خلال مشاركتها السياسية في هذه الدول، وهي هنا ـ أي إسرائيل ـ نحتاج إلى الإسلام السياسي، ليس من أجل إشاعة الأمن والاستقرار في مجتمعاتها، بل لتكون شوكةفي خاصرة الوطن العربي.. وعلى الجانب الآخر، ترى تل أبيب، أنه من الضروري كسر شوكة مثل هذه الجماعات بالعنف، خصوصًا في الدول المتاخمة لإسرائيل.. لقد أرجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أبريل 2017، خلال فترة رئاسته الأولى، تنفيذ أمر من شأنه أن يصنف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية.. ساعتها، كتب الكاتب الإسرائيلي، شلومو بن عامي، وزير خارجية إسرائيل الأسبق، ونائب رئيس مركز توليدو الدولي للسلام ومؤلف كتاب (أنبياء بلا شرف: قمة كامب ديفيد عام 2000 ونهاية حل الدولتين)، Prophets Without Honor: The 2000 Camp David Summit and the End of the Two-State Solution، أنه ينبغي لترامب أن يترك الأمر على هذا النحو إلى الأبد.. لأنه يرى أن الحكومات الشاملة التي يُنظَر إليها باعتبارها تُمثل المجتمعات الإسلامية المتدينة في العالم العربي، تشكل ترياقًا حيويًا للجهادية العالمية.. وقال إنه (من المؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين لم تُجسد القيم الديمقراطية بشكل كامل دائمًا.. ففي مصر، على سبيل المثال، تعاملت حكومة الرئيس محمد مرسي مع الديمقراطية، باعتبارها اقتراحًا يقتنص فيه الفائز كل شيء)، قبل أن يطيح بها الشعب، بعد أكثر قليلًا من عام.
ولكن معالجة مثل هذه النواقص، من خلال نبذ الخيارات الدينية السياسية المشروعة، لا يؤدي إلا إلى تعزيز حُجة المجندين الجهاديين، بأن العنف هو السبيل الوحيد لمسيرتهم.. وهذا ما حدث عندما ثار الشعب المصري على حكم جماعة الإخوان، عام 2013، وقرر أن يعتمد على مبدأ (المحصلة صفر) في التعامل معها.. لقد أظهرت الأحزاب الإسلامية، حيثما حصلت على مساحة للعمل السياسي، عدم قدرتها على الاستفادة من هذه المساحة، وكثيًرً ما دُعيت إلى المشاركة السياسية باعتبارها بديلًا أفضل من العنف، لكنها فضلت (المُغالبة) بديلًا عن المشاركة.. إن السياسة، على النقيض من الدين، ليست عالمًا من الحقائق الأبدية، بل عالمًا من الحسابات العقلانية.. ولكي يحكم المرء بفعالية، فلابد وأن يبني تحالفات وائتلافات، بما في ذلك مع الأحزاب العلمانية والليبرالية.. ونظرًا لهذا، فإن المشاركة السياسية تميل بطبيعة الحال إلى دفع الأحزاب نحو الاعتدال، لكن الإخوان لم يستطيعوا العيش وفق هذا المبدأ.
في المغرب، عندما دخل حزب العدالة والتنمية إلى الساحة السياسية عام 1997، كان (الأسلمة) في صميم برنامجه الانتخابي.. وعلى نحو مماثل، تشكَّل حزب النهضة في تونس، على إرث الثورة الإيرانية وفكر المنتقدين الإسلاميين المتطرفين للقيم الغربية، مثل سيد قطب، أحد أبرز منظري جماعة الإخوان في الخمسينيات.. ولكن حزب العدالة والتنمية وحزب النهضة ـ اللذين وصلا إلى السلطة في بلديهما عام 2011 ـ كانا يتجهان نحو الاعتدال، بل وحتى العلمانية.. وقد قللا من أهمية بعض مبادئهما المتطرفة من أجل استيعاب المبادئ الأساسية للديمقراطية العلمانية، مثل التعددية الثقافية وحرية التعبير.. كانت هذه مجرد مناورات تكتيكية، كان من الممكن أن تؤدي إلى تحولات استراتيجية وحتى أيديولوجية.. إلا أن سرعان (ما عادت ريما لعادتها القديمة).
في الجزائر، سلك الإسلاميون مسارًا مختلفًا بعض الشيء، فخففوا من حدة سياساتهم بعد هزيمتهم في الحرب الأهلية المدمرة، التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن العشرين.. ورغم أن ذكرى تلك الحرب الأهلية بدأت تتلاشى الآن، فإن مثال الصراعات في سوريا وليبيا ـ إلى جانب المشاركة السياسية للأحزاب الإسلامية، مثل حركة مجتمع السلم ـ كان كافيًا لدفع أغلب الشباب الجزائريين بعيدًا عن الجهادية.. وكما أن المشاركة السياسية (قد) تشجع الاعتدال، إذا توافرت النية لدى الجهاديين لاستغلال هذه المشاركة، فإن الإقصاء السياسي قد يُعزز التطرف، ما لم يكن العنف منهجًا.
كل ما سبق تراه إسرائيل مسلكًا محمودًا، طالما لا يتقاطع مع أمنها ومصالحها.. أما في حالة حماس، التي ليست حركة جهادية عالمية، بل هي منظمة إسلامية قومية.. ترى إسرائيل، أن البعض (قد يزعم)، أن رفض المجتمع الدولي الاعتراف بانتصار حماس، عندما وصلت إلى السلطة في انتخابات عام 2006، كان سببًا في إحباط قدرة الحركة على الاعتدال.. فخلافًا للجماعات الجهادية العالمية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، كثيرًا ما كانت حماس تُغازل، ولو بشكل غير مباشر، نهجًا أكثر تصالحية تجاه إسرائيل، في وقت حرَّض فيه نتنياهو على مثل هذا الغزل.. وحتى في غياب الاعتراف السياسي، فقد قررت حماس، على ما يبدو، إصدار ميثاق جديد يخلو من العنف في الميثاق الحالي.. وهناك أيضًا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن حماس سوف تقبل بحل الدولتين، وتُعلن استقلالها عن جماعة الإخوان، من أجل تيسير المصالحة مع القاهرة وغيرها من الدول العربية الرائدة.. وقد غاب عن قادة الدولة العبرية، أن (مقاومة) حماس وليس عنفها، سلوك دفعت إليه تراكمات حصار الاحتلال لقطاع غزة على مدى أكثر من سبعة عشر عامًا، كادت فيها، أن تموت القضية الفلسطينية، بالضربة القاضية.
●●●
في سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، على أيدي المتمردين الجهاديين العنيفين، لم برى فيهم قادة إسرائيل، الفصيل الذي يجب منحه الفرصة، خصوصًا وقد أعلن تنظيم هيئة تحرير الشام، عدم قدرته على خوض حرب ضد إسرائيل، بل إنه أعلن، على لسان محافظ دمشق، المنتمي للهيئة، أنهم يرغبون في سلام مع تل أبيب.. وهنا، يكتب نفتالي بينيت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، في (الواشنطن بوست)، إن الحرب كانت قريبة جدًا، لدرجة أننا كنا نكاد نلمسها.. كانت مقاطع فيديو قطع الرؤوس، التي نشرها تنظيم الدولة الإسلامية، والتي صدمت العالم، أقرب إلينا بكثير من معظم الدول الغربية.. كان تنظيم الدولة الإسلامية من بين الجماعات التي كانت تقاتل، ولا تزال، هناك في ساحتنا الخلفية. إذا لم نهتم نحن في إسرائيل بأمننا، فإننا نعرف ما سيأتي بعد ذلك.
ومع سقوط بشار الأسد، تواجه إسرائيل لحظة محورية من الخطر والفرصة.. وأيًا كانت التحولات التي تحدث الآن، فمن المرجح أن تؤثر على المنطقة بأكملها لعقود من الزمن.. ولمواجهة هذا الواقع الجديد، تبنت إسرائيل استراتيجية ذات شقين: أولًا، القضاء على التهديدات المباشرة.. ثانيًا، الاستفادة من الفرص الناشئة (لتعزيز موقفنا الدفاعي).. إن كلا وجهي هذا النهج ضروريان لتجاوز الفوضى الحالية، وضمان الاستقرار على المدى الطويل.. ويرى بينيت، أن الأولوية المباشرة للحكومة الإسرائيلية هي سلامة مواطنيها، وخصوصًا أولئك الذين يعيشون بالقرب من مرتفعات الجولان.. ويتضمن ذلك تحييد القدرات العسكرية السورية المتقدمة، قبل أن تقع في أيدي الجهاديين، وإنشاء منطقة عازلة إقليمية لحماية المجتمعات الإسرائيلية من الاضطرابات المجاورة.. وكلاهما مسائل تتعلق بالسلامة الأساسية.
خلال الأسبوعين الماضيين، أفادت التقارير، أن القوات الجوية الإسرائيلية دمرت ما يصل إلى 80% من الأصول الاستراتيجية للجيش السوري، بما في ذلك مستودعات القوات الجوية والبحرية والأسلحة الكيميائية بأكملها تقريبًا.. إن النجاح الساحق الذي حققته هذه العمليات ـ ضد ما كان يعتبر أحد أقوى الجيوش في المنطقة ـ يعد بمثابة نعمة ليس لإسرائيل فحسب، بل للعالم أجمع أيضًا.. إن وجود أسلحة خطيرة في أيدي الجماعات الجهادية، من شأنه أن يُشكل تهديدًا كارثيًا للأمن العالمي.. فسوريا دولة مُمزقة، مُقسمة بين فصائل متشابكة ومعقدة، والتي تشكل في حد ذاتها تحالفات من فصائل أصغر، يجب على اللاعبين المهيمنين التفاوض معها.. وبرزت هيئة تحرير الشام، باعتبارها القوة السائدة، على الرغم من أن عدد مقاتليها قليل للغاية، بحيث لا يمكنهم السيطرة على البلاد بمفردهم.. في الشمال، احتلت تركيا لسنوات، جزءًا كبيرًا من الأراضي السورية، دون أي شكاوى دولية من (الاحتلال)، ويستغل أتباعها فراغ السلطة لمهاجمة عدوهم، الأكراد، المتحالفين مع الولايات المتحدة، لأنهم ماهرون في قتال تنظيم الدولة الإسلامية.. ووسط كل هذا، تعتبر تركيا والولايات المتحدة حليفتين في حلف شمال الأطلسي.
في الوقت نفسه، في الجنوب، يعمل الجيش السوري الحر كتحالف فضفاض من المتمردين السُنة.. وتؤكد الطبيعة المُرقعة لهذه الجماعات، عدم وجود حكومة سورية فاعلة، قادرة على ضمان الاستقرار أو الالتزام بالاتفاقيات الدولية.. ويستدعي صعود زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، تدقيقًا خاصًا.. إنه (تاليران) سوري، وكثيرًا ما غيّر مواقعه لصالح البقاء السياسي.. ولمن لا يعرف تاليران، فإنه تاليران واحد من الشخصيات التي ثارت حولها الشكوك في التاريخ، إذ يرجع أصله إلى أسرة معروفة بخدماتها العسكرية.. كان الشرع عضوًا في تنظيم القاعدة في العراق، تحت قيادة الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي، ثم خدم تحت قيادة خليفته، وزعيم تنظيم الدولة الإسلامية المستقبلي، أبو بكر البغدادي، قبل أن ينفصل ويُشكل تنظيمه الخاص، فرع القاعدة، جبهة النصرة.. ومنذ ذلك الحين، حاول إعادة تصنيف نفسه على أنه معتدل، ولعب اللعبة الدبلوماسية داخل سوريا، وارتدى ملابس حديثة، وأنشأ وظائف شبه حكومية في أراضيه، وتخلص من اسم تنظيم القاعدة لصالح هيئة تحرير الشام.
هذا التحول، هو على الأرجح حيلة محسوبة.. من شبه المؤكد، أن الشرع (أو الجولاني)، كما يسميه العديد من الذين تابعوا مسيرته المهنية، لا يزال جهاديًا سلفيًا لم تتغير إيديولوجيته الأساسية ـ مع أن الولايات المتحدة رفعت للتو المكافأة بقينة عشرة ملايين دولار لمن يأتي برأسه، وما زال على القائمة، أن هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية ـ فإن الثقة في نواياه ستكون ساذجة بشكل خطير.. ويجب على إسرائيل ألا تسمح له بأي مجال.. وأي عمل عدائي تجاه إسرائيل، يجب أن يُعاقب عليه بسرعة وبشكل غير متناسب.. والوقت وحده سيكشف عن ألوانه الحقيقية.
يؤكد بينيت، أن الردع الصارم ضرورة بالنسبة لإسرائيل، خصوصًا في ضوء انهيار اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا عام 1974.. وهذا الإطار الذي كان يشكل حجر الزاوية في الاستقرار على طول الحدود الإسرائيلية ـ السورية، أصبح الآن ميتًا.. قبل أيام قليلة من سقوط نظام الأسد، هرع جنود إسرائيليون لمساعدة موقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، عندما تعرض لهجوم من قبل مسلحين مجهولين.. ومع عدم وجود سلطة موثوقة في سوريا، ومع غياب آلية التنفيذ، تبخر الإطار العملي لاتفاق وقف إطلاق النار.. وبالتالي، فإن إنشاء منطقة عازلة مناسبة، يُشكل ضرورة دفاعية لحماية المجتمعات الإسرائيلية، من امتداد حالة عدم الاستقرار في سوريا.. ولتحقيق هذه الغاية، سيطرت قوات الكوماندوز الإسرائيلية على جبل الشيخ الاستراتيجي السوري، وتحتفظ وحدات الجيش الإسرائيلي بما يكفي من الأراضي لحماية حدود إسرائيل.
ثم هناك مكان سوريا في الشرق الأوسط الكبير.. لقد أدى سقوط نظام الأسد، إلى جانب التدهور الشديد الذي أصاب حزب الله في لبنان خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى تدمير (الهلال الشيعي)، الممتد من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط.. وكانت سوريا هي طريق الإمداد الرئيسي بالصواريخ المتقدمة لحزب الله، وكانت هي نفسها دولة عميلة لإيران.. ومع انهيار النظام، وقيام إسرائيل بإزالة أنظمة الدفاع الجوي الروسية الصنع في سوريا، أصبح بوسع الطائرات المقاتلة الإسرائيلية الآن، أن تطير إلى إيران دون عوائق تقريبًا، مع عدم وجود تهديد بدفاع جوي معادٍ أو انتقام بالوكالة الإيرانية.. لقد تم تدمير (حلقة النار) الإيرانية، الأمر الذي أدى إلى تجريد المنشآت النووية وغيرها من المنشآت.. وهذه فرصة يكاد يكون من المؤكد أنها لن تتكرر أبدًا.
لقد أدى تفكك نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، إلى ترك خريطة الشرق الأوسط في حالة تغير مستمر.. تتآكل الحدود والترتيبات التي فرضها الاستعمار، والتي حددت المنطقة خلال القرن الماضي؛ لا أحد يعرف كيف ستبدو الخريطة عندما يهتز كل هذا.. وبدلًا من الالتزام بالهويات الوطنية المفروضة، من المرجح أن يكون النظام الإقليمي الجديد عضويًا من الناحية الاجتماعية، على أسس عرقية ودينية وقبلية وطائفية.. وبينما يتشكَّل الشرق الأوسط الجديد، لا يجوز لإسرائيل أن تقف مكتوفة الأيدي.. (يجب أن نحمي مصالحنا ونُبعد أسوأ الجهات الفاعلة).. يقول بينيت، الذي يُضيف.. أنن مقاطع الفيديو المروعة التي خرجت من سوريا ـ من عمليات الإعدام الانتقامية، بإجراءات موجزة للعلويين على يد السنة، إلى الفظائع التي تم الكشف عنها في سجن صيدنايا خارج دمشق ـ تذكرنا بالمعاناة الإنسانية الرهيبة في سوريا.. ولكننا شهدنا أيضًا دعوات الجهاديين المتمردين لاحتلال القدس!!.. بالنسبة للإسرائيليين، كل هذا يثير التعاطف، ولكنه يجبرنا أيضًا على تبديد أي أوهام.. بعد سقوط الفاشية، حُوصر قسم كبير من أوروبا المحررة خلف الستار الحديدي للشيوعية.. هناك العديد من المجموعات في سوريا، ذات أهداف متناقضة، مما يجعل من الممكن أن تلعب نفس الديناميكية دورًا مستقبلًا.. ولهذا السبب، طلبت مجموعة مثل دروز السويداء من إسرائيل الاستيلاء على أراضيهم وجعلها جزءًا من إسرائيل. إلى أن يمكنهم رؤية ما قد يأتي.. ولكن إسرائيل لم ننتظر لنرى، ما إذا كانت مجموعات، مثل هيئة تحرير الشام، ستعتدل أم لا.. وبدلًا من ذلك، هدفت إسرائيل إلى تحييد التهديدات قبل أن تظهر، حتى صارت هيئة تحرير الشام، طائر بلا جناح، وأصبحت سوريا، أرض بلا سلاح!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
0 تعليق