عام جديد يمر على المسرح المصرى ويضيف إلى تاريخه عروضًا جديدة وفنانين شبابًا وجمهورًا يتسع، ومبادرات تفتح آفاقًا للحلم، وتدعو إلى التساؤل حول إن كنا قد استطعنا بحق أن نحافظ على المسرح المصرى مع رسم صورة حديثة ومعاصرة له، وحول مدى استجابة الخريطة المسرحية مع قضايا مجتمعنا والأحداث الجسيمة التى يمر بها العالم، وعن أهم الظواهر والعروض والمبادرات والمهرجانات والمسابقات والجوائز التى حظى بها، بالإضافة إلى ما تحقق فى التمثيل والإخراج والكتابة وجميع مفردات العرض المسرحى.
ولأن نقاد المسرح هم الأكثر متابعة واتصالًا، تحدثت «الدستور» إلى عدد من المسرحيين لرصد ما تحقق فى المسرح المصرى خلال عام ٢٠٢٤، وأهم عروضه ومبادراته، مع التساؤل عن المسرح المصرى والخطوات التى اتخذها فى اتجاه أداء دوره الحقيقى فى تغيير وتطوير وعى المجتمع وذائقته الجمالية.
محمد علام..المسرح الغنائى والإعداد العصرى لنصوص عالمية
من الصعب الجزم بأفضل العروض، لأن عوامل التفضيل ستختلف من شخص إلى آخر، ولكن لو حاولنا أن نقف على بعض المحددات مثل: التجديد والابتكار، والاتصال بالجماهير، والإحكام الفنى، فإن دائرة الاختيار ستصبح أصغر نسبيًا، وهى تشمل بالتأكيد أكثر من عرض تم تقديمه هذا العام، ولكنى سأتحدث عن أحدث العروض التى قدمت مؤخرًا، وأثبتت أنها يمكنها أن تلحق بركب أفضل العروض المسرحية فى عام ٢٠٢٤.
لقد أثار عرض «الطاحونة الحمراء» حالة من التفاعل الجماهيرى الواسع منذ عرضه فى بداية العام، خاصة مع حصوله على جائزة أفضل عرض فى مهرجان مسرح الأقاليم الذى تقيمه الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأفضل موسيقى لزياد هجرس، فى المهرجان القومى للمسرح المصرى.
يدور العرض فى قالب غنائى استعراضى، حول شاعر شاب انتقل حديثًا إلى باريس، ثم شرع فى كتابة مسرحية موسيقية لكباريه مولان روج أو الطاحونة الحمراء، لكنه سرعان ما يسقط فى حب نجمة الكباريه الأولى «ساتين».
وصحيح أن العرض مستلهم من فيلم «الطاحونة الحمراء»؛ من بطولة نيكول كيدمان، وإخراج باز لورمان، إلا أن التأليف الغنائى أضاف له حالة خاصة من التكامل الفنى، حيث جاءت الأغنيات من نسيج العمل نفسه، وأسهمت فى بنائه الدرامى، كما قدم مجموعة جيدة جدًا من الممثلين.
أما عرض «ماكبث المصنع» فسيظل واحدًا من العروض التى أحدثت جدلًا كبيرًا لعدة أسباب، فقد فتح باب النقاش حول إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعى فى التحضير الدرامى أو الفنى للعروض المسرحية، وبين مؤيد ومعارض، أرى أن حالة النجاح التى حققها العرض فى مصر والوطن العربى تجعل مسألة الإعداد الدرامى للنصوص الكلاسيكية وتحريرها من عالمها الكلاسيكى وإعادة إنتاجها فى عالم تسيطر عليه التكنولوجيا وتحيط به تقنيات الذكاء الاصطناعى واحدة من القضايا المعاصرة التى يمكنها أن تؤثر على اتجاهات المسرح المصرى المعاصر خلال الفترة المقبلة.
وفى رأيى أن عرض «محاكمة السيد ميلر» من أفضل العروض المسرحية لطلاب جامعة بنى سويف، فقد قدم معالجة درامية مميزة من دراماتورج وإخراج محمد يوسف المنصور لمسرحية «البوتقة» لأرثر ميلر، حيث يظهر أرثر ميلر على المسرح وهو يواجه اتهامات «لجنة مكارثى» بانتمائه إلى الشيوعية، وتواطئه مع فصائل هدفها تهديد الديمقراطية الأمريكية، ما يدفع «ميلر» إلى تأليف «البوتقة»، عن المحاكمات الظالمة التى أطاحت بعشرات الأبرياء فى قرية «سالم».
وهكذا يغوص العرض من القرن العشرين إلى القرن السابع عشر، على الرغم من أن الأسلوب الفنى الذى صاغه «المنصور» للعرض جعل ظلال الدراما يتماس مع الوقت الحالى، وهو ما أراه أحد عوامل النجاح الفنى. وقد أثار العرض حالة تفاعل غير مسبوقة مع الحضور، خاصة أن أغلبهم من الطلاب، وأعتقد أن هذه الحالة تستحق الكثير من التقدير والتأمل فى أسبابها، وأثار العرض أيضًا العديد من الأفكار التى تلامس الشباب، مثل حرية التعبير، والانحلال الأخلاقى، والكيفية التى يتسلل بها بعض المدلسين والانتهازيين إلى السلطة للتلاعب بقيم مثل الحق والعدل، ففى عصر يغيب فيه العقل والمنطق تصبح كل الجرائم ممكنة الحدوث.
محمود سعيد..عودة المواسم المسرحية.. وتميز «القومى» و«التجريبى»
من أهم إنجازات المسرح المصرى قديمًا لعبة المواسم المسرحية، إذ امتد الموسم المسرحى قديمًا لسنوات طويلة، ولعل عروض الراحل فؤاد المهندس والقدير عادل إمام خير مثال على ذلك.
وفى رأيى، فإن من أبرز الظواهر لهذا العام ٢٠٢٤ أن نرى بذور عودة تلك المواسم مع عرض «مش روميو وجولييت»، للمخرج الكبير عصام السيد مع فريق عمل مميز، وهو الذى يعد أحد أهم العروض المسرحية لهذا الموسم.
كما برز على مدار العام العديد من المفردات المسرحية شديدة الأهمية، منها المهرجان القومى للمسرح المصرى، وما جاء به من طرح فكرى مميز وتكريم للعديد من الأسماء المسرحية شديدة الأهمية.
وبرز أكثر من عرض مسرحى مميز فى هذا العام، مثل عرض «المصير»، للمخرج محمد مرسى، وهو عرض تمت صناعته بسهولة بطريقة «الكولاج» المسرحى، حيث خلط المخرج وصانع العرض مجموعة من المفردات الفنية، منها نصوص مسرحية او قصص قصيرة أو أشعار، عبر مجموعة من شباب فرقة المسرح السكندرى.
ورصد صانع العمل تاريخ مصر على مدار أكثر من سبعة عقود، من خلال شخصية رجل تم رصد حياته منذ أن كان نطفة فى رحم أمه، وتحولات حياته من الدراسة إلى العمل إلى الزواج والإنجاب، حتى مرحلة النهاية، بشكل درامى فى إطار كوميدى ساخر، لتبدو الشخصية فى إطارها الكاريكاتورى كشاهد عيان على تاريخ مصر الحديث منذ أربعينيات القرن الماضى إلى العصر الحالى.
ورصد العرض شتى الصور المشهدية للحياة بمصر بشكل ساخر، إلا أنه كاشف وفاضح لمراحل حياتية كانت تحمل العديد من الأمراض المجتمعية داخل مصر، من كذب ونفاق وتملق، إلى بعض مؤشرات الوطنية وحب الوطن، وكل شىء داخل بوتقة واحدة، فهو ممزوج مسرحى، لعبت فيه شاشات العرض بشكلها السينمائى للرائع محمد المأمونى دورًا شديد الأهمية والتماسك والدقة، ليمثل هذا العرض مرحلة مهمة ومغايرة فى صناعة العرض المسرحى المصرى.
ولا يمكن تجاهل الدور المهم للتجريب المسرحى ومهرجانه المهم، الذى يقود مجراه الدكتور سامح مهران باقتدار وتميز ونضج من عام لآخر، خاصة عروضه المسرحية ومحاوره الفكرية المهمة، وقد كان لى شرف المشاركة فى مؤتمره الفكرى عن المركزية والمسرح.
مسرحنا بخير وفى وضع مميز، إلا أن هذا لا ينفى أن هناك العديد من المفردات، والتى بحاجة لدرس واهتمام وتطوير، كى يصل المسرح المصرى لمكانته المعهودة.
محمد سمير الخطيب..«جدار الصمت» وفلسفة مقاومة الاحتلال بالجسد الراقص
أعتقد أن من أهم الظواهر التى حدثت هذا العام وجود نمط جديد فى المسرح المصرى، وأقصد هنا العروض المسرحية التى تعتمد على الذكاء الاصطناعى، فقد تدخَّل فى التأليف وغيره من العناصر.
كنا نرى الذكاء الاصطناعى يتدخل فى أمور أخرى بعيدًا عن الإبداع، ولكن عرضًا مثل «ماكبث المصنع» اعتمد فى كتابته على الذكاء الاصطناعى، وهذه ظاهرة أعتقد أنها تحتاج إلى دراسة لفهم مدى تدخل هذه التقنيات فى الإبداع، وهل سيؤثر ذلك على المبدع، سواء المؤلف أو المخرج؟ كما نحتاج لفهم كيف ستتغير قواعد الملكية الفكرية.. نحتاج إلى ندوات وأبحاث لمناقشة كل ذلك.
وهناك عرض مسرحى آخر لفت انتباهى، وهو عرض «جدار الصمت» للمخرج وليد عونى، الذى يتحدث عن القضية الفلسطينية، ولكن قدمها بشكل مغاير يعتمد على «الجسد الراقص»؛ فكان عرضًا إبداعيًا قُدم فى افتتاح مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، وهو عرض حقق فارقًا كبيرًا؛ لأنه يعتمد على «المقاومة بالجسد»، وأراه عرضًا بديعًا، وهناك عروض أخرى متميزة، مثل عرض «مش روميو وجولييت».
فى ظنى، نحن فى توقيت يجب أن نرى فيه القضايا الملحة فى المسرح المصرى، وأرى أننا لا نستطيع فصل المسرح عن واقعنا الاجتماعى، لذلك يجب علينا دراسة عرض «ماكبث المصنع»، لفهم تدخلات الذكاء الاصطناعى فى الإبداع، وعرض «جدار الصمت»، الذى أوضح علاقة المسرح بالمجتمع بعرض القضية الفلسطينية بشكل راقص، وكذلك عرض «مش روميو وجولييت».. هذا تقديم مختلف للكلاسيكيات.
أحمد خميس الحكيم..«ماكبث المصنع» والذكاء الاصطناعى فى العروض
أفضل العروض لهذا العام هو «ماكبث المصنع» و«مش روميو وجولييت» و«الطاحونة الحمراء» و«حيث لا يرانى أحد».
يعد عرض «ماكبث المصنع»، إخراج محمود الحسينى، من أهم العروض؛ إذ إنه ذهب بنا لمجال مختلف، هو الذكاء الاصطناعى، وجرى تضفيره مع عناصر العرض المسرحى.
وليس لدى أى مانع من اعتماد المؤلف والمعد على الذكاء الاصطناعى بشكل كبير، خاصة أنه مجال جديد.
«ماكبث المصنع» عرض غنائى استعراضى متميز وجيد، وأظهر لنا كيفية الاعتماد على تيمة كلاسيكة تشتبك مع الراهن الاجتماعى.
أما عرض «الطاحونة الحمراء»، إخراج حسام التونى، فهو عرض غنائى استعراضى مهم، وأرى أننا نفتقد هذا النوع، وأن الجمهور يحبه، وقد لمست ذلك بنفسى، فقد كنت هذا العام عضوًا فى لجنة تحكيم إقليم القاهرة الكبرى بالثقافة الجماهيرية، وانتظرنا ما يقرب من ساعة ونصف الساعة؛ حتى نتمكن من دخول المسرح من شدة زحام المشاهدين.
أما عرض «حيث لا يرانى أحد» فهو يعد بداية مبشرة لمؤلف ومخرج صاعد، محمود صلاح، وتضمن قضايا تختص بالشباب خلال الفترة الحالية، وناقش فكرة صراع الأجيال.. واعتمد المخرج على سينوغرافيا بسطية، تمكنه من نقل العرض على خشبات مختلفة.
أما المشكلة الحقيقية التى تهدد مستقبل الصناعة المسرحية فى مصر، فهى تناقص عدد دور العرض المسرحية، وتلك مشكلة كبيرة وضربة تصيبنا فى القلب، لذا علينا أن ننتبه جميعًا، فالمسرح المصرى فى أزمة كبيرة هذا العام بسبب تلك المشكلة.
ففضلًا عن المسارح التى خسرناها فى الأعوام المنصرمة، نرى المسرح العائم، الذى يضم قاعتىّ عرض وفرقتين للبيت الفنى للمسرح «الشباب والتجوال» قد تأكد إخلاؤه ودون وعود حقيقية بتعويضه، وهناك مسارح أخرى ستلحق به فى المستقبل القريب، شئنا أم أبينا، مثل «الحديث ومتروبول».
لكن يتجدد الأمل عندى وتتجدد السعادة كلما شاهدت صور العروض والجمهور المتابع للمسرحيات التى تقدمها فرقة التجوال، بقيادة محمد الشرقاوى، إذ تذهب العروض للجماهير وتقدم لهم ليالى مجانية فى النجوع والقرى والمدارس والنوادى والساحات.
رشا عبدالمنعم..«أوبرا العتبة» الأكثر جرأة لمناقشة «الابتذال»
لم يكن الموسم المسرحى هذا العام بنفس ثراء الموسم الماضى، لكن فى رأيى أن مبادرة «سوكسيه»، التى أطلقها الفنان أشرف عبدالباقى هى الحدث المسرحى الأبرز فى ٢٠٢٤.
أظهر أشرف عبدالباقى وعيًا بمسئولية فكرية وفنية واجتماعية لم يظهرها العديد من النجوم، عندما أعلن عن مبادرة «سوكسيه» لاستضافة العروض المستقلة المميزة فى مسرح نجيب الريحانى، وتقديم كل أشكال الدعم اللازم الذى تحتاجه تلك العروض، وهو دور كان من الواجب أن تقوم به وزارة الثقافة.
منحت تلك المبادرة فرصة لعدد من الفرق؛ قدمت لها منفذًا أو مخرجًا للطوارئ للتعبير عن فنها والتواصل مع الجمهور.
قدم أشرف عبدالباقى لهم دعمًا تسويقيًا؛ بأن شارك فى دعايا تلك العروض ودعوة جمهوره لمشاهدتها، ما يجعلها تستحق فى رأيى أن تكون الحدث الأبرز.
أما عن العروض، ففى رأيى أن عرض «أوبرا العتبة» كان العرض الأبرز والأهم، حتى وإن لم يحظ بما يستحق من إشادة حتى الآن.
تجربة «أوبرا العتبة» فى الخروج خارج سور مسرح الطليعة وتقديم غناء أوبرالى وسط نداءات الباعة الجائلين، كان تحديًا كبيرًا ورسالة مزدوجة، ويستحق صناع العرض تحية كبيرة لجرأتهم تلك، بقيادة المخرج هانى عفيفى، كما يستحق مدير مسرح الطليعة، المخرج عادل حسان، التحية على تلك المغامرة الفنية، التى فتحت مسرح الطليعة على جمهور جديد لم نره فى مسرحنا من قبل.
أما عن موضوع المسرحية، فالعرض ناقش كيف أصبحت الثقافة والفنون سلعة راكدة فى سوق كبيرة، حيث كل شىء قابل للبيع والشراء، حتى القيم والأخلاق.
ركز العرض على فوضى الاستهلاك، التى جعلت من الإنسان وحشًا يلتهم كل شىء بلا تمييز؛ يستهلك ويعلى من شأن كل ما هو عديم القيمة، من طعام وشراب ومحتوى مبتذل على السوشيال ميديا، وظلت الثقافة والفن الحقيقيان سلعة غير رائجة، وانعزل المثقف ولم يبحث عن طريق يصله بمجتمعه، مفضلًا أن يعيش فى فقاعته.
0 تعليق