للمرة الثانية خلال أشهر قليلة يأتينى الشيخ فورة فى المنام، فى المرة الأولى دخل إلى شقتى خلسة وأعد لنفسه كوبًا من الشاى، ثم جلس ليشربه فى مطبخى «الأمريكان» على ضوء الشموع دون أن يقول لى كلمة واحدة، بينما كنت منهمكًا فى الريسبشن أقرأ فى ملف دانينوس الأسود، أما فى هذه المرة فقد أتى مع أمى، يداه مربوطتان من الخلف والدموع المشتعلة تسقط على وجنتيه، وأمى تُرَبِّت على ظهره، وتطعمه فى فمه، وهى تدمع فى صمت، أما أنا فلم أكن منشغلًا عنه كما كنت فى الحلم السابق، وحينما رأيته على هذا الحال أشفقت عليه، فأشارت أمى إلى يديه المربوطتين، ففهمت أنها تريدنى أن أساعده وأحل وثاقه، وبدلًا من أن أذهب إليه وأفك الحبل، أو أقطعه أمسكت بهاتف عالية المحمول، وحاولت إدخال كلمة السر متعجلًا، وكأن قنبلة قاتلة ستنفجر لو لم أدخل الرقم السرى، ففشلت مرة بعد مرة حتى استنفدت المحاولات وانغلق الهاتف تمامًا، مُصدِرًا صوتًا رتيبًا مثل صوت جرس الإنذار، فصحوت من النوم فزعًا مكروبًا.
ما أغرب منطق الأحلام وأقساها! أدفع نصف عمرى لأعرف كيف يعمل المخ على تشكيل هذه الأحلام بهذه العبثية المنظمة التى تقنعنا بواقعيتها حتى تغير من إيقاع جسدنا ونبضات قلبنا وإدراكنا، وكيف يخدع المخ نفسه فيكسر المنطق الذى صنعه بمنطق أشد منه تأثيرًا؟
يا حبيبتى يا أمى، اشتقت إليك وإلى حضنك وحنانك ويدك الخضراء التى كانت تحمل الخير والمحبة للجميع، ما زلت أذكر يدك المعروقة التى كانت تحمل الصينية المتكدسة بساندوتشات الفول لتوزيعها على عمال شركة المياه، حينما أتوا ليجددوا خط تغذية الحى، وبينما كان الشارع كله متأففًا من وجودهم؛ لأنهم قطعوا المياه عن المنطقة كلها، كنت أنت تحملين الإفطار لهم؛ لأنهم «غلابة وعلى باب الله»، وهى نفس اليد يا أمى التى كنت تخطفين بها «نوى المشمش» منا كل عام قبل أن نلعب به «الطاروقة»؛ لأنك كنت تصنعين منه وصفة قديمة لعلاج تأخر الحمل، وهى نفس اليد التى كنت تردين بها قدم «المخلوع»، وتجبرين بها يد المكسور؛ لأن الله منحك يدًا «فيها الرَّدَّة» كما كنت تقولين، وقد لا تعرفين يا أمى أنى كنت أظن أن كلمة «فيها الردة» تعنى أن فيها «ردة» حقيقية، كالتى يضعها الفران أسفل طاولة العجين لتلتصق برغيف العيش، وقد كنت أظنها تعبيرًا مجازيًا عن كثرة ما تقدمينه من ساندوتشات للمحتاجين، لكنى عرفت فيما بعد أن كلمة «فيها الردة» تعنى أنها قادرة على رد الأشياء إلى أصولها، ورد المفاصل إلى مواضعها تمامًا كما يفعل دكتور العظام.
يا حبيبى يا فورة، كلما أنساك تأتى لتذكرنى بنفسك، ودائمًا حينما تأتى ترن فى أذنى أغنية وردة التى كنت تعشقها وتستمع إليها دائمًا:
«وعملت إيه فينا السنين؟
فرّقتنا؟ لا. غيّرتنا؟ لا.
ولا دوبت فينا الحنين».
ودائمًا ما تقف الأغنية عند هذا الحد، ليصبح صوت وردة الخالى من الإيقاع خلفية جنائزية لحياتك البائسة.
هل أحن إليك يا فورة أم أشفق عليك؟ أم يأخذنى الحنين إلى بيتنا القديم وشارعنا القديم وأمى الطيبة، وعطفها عليك وعلىَّ؟
ما زلت أذكر صورتَيْك يا فورة؛ صورتك وأنت فى كامل أبهتك وأناقتك، وصورتك وأنت على مشارف الذبول قبل الرحيل، كنتَ مثالًا للأناقة والشياكة فى شارعنا الذى كنت أحسبه واسعًا رحبًا، لكنى فوجئت به ضيقًا كئيبًا حينما زرته قبل سنوات قليلة.
هل ضاق الشارع فعلًا.. أم اتسعت أعيننا فرأت الواسع ضيقًا والرحب خانقًا؟ أم كبرنا فضاقت علينا الشوارع كما تضيق علينا الملابس؟ أم اختلف منظورنا إلى الدنيا بعد أن زاد طولنا، فرأت أعيننا ما هو أكبر من رءوسنا؟
على أية حال، الحمد لله أن ما تفعله الأيام فى الواقع لا ينسحب على الذكريات، وذكرياتى ما زالت تحتفظ بصورة شارعنا الواسع المضىء، وأناقة «حمادة عبدالغفور»، ذلك الشاب الثلاثينى الأنيق، الذى كان أصدقاؤه ينادونه بـ«عبدالغفور» تمييزًا له عن حمادة الصالحى سمكرى السيارات، قبل أن يغيروا اسمه من «عبدالغفور» لـ«فورة»، ربما على سبيل «الدلع»، أو ربما لأنهم رأوه شابًا أنيقًا مكتملًا، مثل «فورة» الكوتشينة، فصار شهيرًا بهذا الاسم، قبل أن يتحول إلى «الشيخ فورة» فى أواخر أيامه.
أذكُرك وأذكر دكانك يا فورة فى شارعنا الواسع الضيق بشبرا، وقد صار عامرًا بكل أنواع الاحتياجات اليومية، وكنت أمرُّ عليه طفلًا فى يد أمى، فيأخذنى الانبهار بتلك الألوان الزاهية فى واجهة الدكان، وقد كان «فورة» عائدًا لتوه من السعودية، ولا أحد يعلم ما الذى كان يفعله هناك، لكنه تحول إلى أسطورة فى شارعنا بعد أن فتح هذا الدكان وأسماه «بوتيك عتاب»، ووضع فيه كل ما كان يضعه الخردواتى، لكن بشىء من التنسيق والإبهار ورخص الأسعار، فكان دكانه مزدحمًا دائمًا بأجمل البنات وأشدهن غَنْجًا ودلعًا.
كان «فورة» متأثرًا بزمنه، ورفض مختارًا أن يغادر «السبعينيات» التى غادر مصر فى أواخرها، فكان يقف فى الدكان ببدلة «سَمنى» كاملة بالصديرى، ورابطة عنق عريضة «مقلمة» بالأبيض والأسود، وساعده شكله القريب من الممثل «زين عشماوى» فى أن ينظر إلى الجميع، وكأنه نجم سينمائى، وهذا على ما يبدو كان سبب شقائه وأزمته، فقد صدق «فورة» أنه أصبح «نجمًا» فوق الجميع، وأنه سيستمر فى الصعود إلى سلم المجد، وسيتزوج «نورا» بنت الحاج «عبدالسميع» عضو مجلس الشورى السابق، وقد كان الحاج عبدالسميع يسكن فى العمارة العالية على ناصية الشارع مع أكبر أغنياء المنطقة، وبحسب الأقاويل فقد كان الحاج عبدالسميع قادرًا على شراء أكبر فيلا فى أرقى الأحياء، لكنه كان يفضل أن يسكن مع أبناء منطقته ليكون دائمًا بجانب أهالى الدائرة الكرام.
الحاج عبدالسميع يسكن فى الدور الرابع، وابنته نورا فى الخامسة والعشرين من عمرها، ومن حين لآخر تطل من النافذة فيراها «فورة» وينبهر، وقد كانت «نورا» بيضاء مثل نورا الممثلة، ممتلئة الجسم، واسعة العينين، واضحة الملامح، تحب أن تبرز وضوح ملامحها وعذوبتها بأحمر شفاه قانٍ، وكحل أسود عريض، غير أنها على ارتفاع شأن أهلها وغناهم الفاحش أصيبت وهى صغيرة بشلل الأطفال، فترك بقدمها عرجًا جعلها تتمايل حين تمشى، فلا ينظر أحد إلى جمالها إلا بإشفاق واستعطاف، ولذلك أصبحت أسيرة النافذة التى ما إن تظهر بها حتى ينظر إليها الشيخ «فورة» ساكنًا خاشعًا كصوفى مجذوب يناجى الله فى الباطن والظاهر.
كان من الممكن أن تظل تلك القصة على هذه الحال من الرومانسية الصامتة، وأن تظل «نورا» سؤالًا فى عقل «فورة» بعد أن يتزوج وينجب من غيرها، ليقول: هل يا ترى أحبتنى بنت الذوات أم لا؟ لكنه أراد أن يكسر الصمت ببدلة جديدة بيضاء وتسريحة شعر مبهرة بالاستشوار، ومثبت الشعر من يد سعيد الحلاق، وعلبة شيكولاتة فاخرة من كوفرتينا.
وفى يوم وقفة عيد الأضحى صعد إلى الدور الرابع مدفوعًا بالحب والثقة بأنه «فورة»، وفى لحظات وجد نفسه فى صالون الحاج عبدالسميع، وقد امتلأ البيت عن آخره بأخوات نورا وأعمامها وأخوالها الذين جاءوا ليسهروا مع كبير العيلة فى يوم الوقفة، والجميع فى انتظار معرفة سبب هذه الزيارة الغريبة، وبمجرد أن قال «فورة» كلمته حتى انقلبت الدنيا على رأسه.
■ يا عمى، أنا أريد أن أطلب يد الآنسة نورا.. فأنا أحبها وأظن أنها لن تمانع من الارتباط بى.
قال فورة هذه الكلمة فأصابتهم فى مقتل، ودون أن يتبادلوا كلمة واحدة اجتمعت العائلة كلها بمن فى ذلك النساء على ضربه بكل قسوة، وكأنه خاض فى عرضهم، أو دنّس شرفهم، كل رجال العائلة الكبار فى مناصب كبيرة بالدولة، أما شبابها- الذين كانوا «باشوات» مثل آبائهم- فكانوا أشد فتكًا به وتنكيلًا، ولم ينته الأمر عند هذا فحسب، بل أصر أخوها الأكبر «حامد» على أن يربط «فورة» بجوار «العجل» الذى سيذبحونه فى الصباح، بعد أن جرجره على السلم، وما زاد من قسوة المشهد أن هذا الأخ أحضر «نورا» لترى «فورة» مربوطًا بجوار العجل، وقال لها أمام الجميع: هذا الولد يقول إنك تحبينه، وأنك لن تمانعى من الارتباط به؟ فلم تجب نورا بكلمة واحدة، لكنها اقتربت من فورة ونظرت فى عينه بتحدٍّ ثم بصقت فى وجهه.
أهل الشارع توسطوا لدى الحاج عبدالسميع ليفك «فورة» الذى وصفوه بأنه «عيل وغلط»، وبرغم أنه لم يمكث فى الأَسْرِ سوى ساعة أو أقل، لكنه ظل طوال عمره بعد ذلك يضع يديه خلف ظهره ولا يحركها إلا فى أضيق الظروف.
أغلق «فورة» دكانه بعد تلك الواقعة شهورًا، وحينما فتحه مرة أخرى، كان كل شىء تغير، انطفأت ألوان بضاعته، وفرغت الأرفف التى كانت مكدسة، وظهرت الشروخ فى الواجهات الزجاجية، وانتقل الحاج عبدالسميع وأسرته إلى أبراج الأغاخان بالمظلات، وشيئًا فشيئًا ذبل وجه «فورة»، وأصبح دكانه مثل الكهف المعتم، بعد أن قطعوا عنه النور لعدم دفع فواتير الكهرباء، وأصبح هو «شيخًا» بعد أن أطلق لحيته وظهر بها الشيب.
مقطع من رواية «لعنة الخواجة»
0 تعليق