كتب ـ أحمد الجارالله:
عندما تغيب الحقائق من خلال التضليل والدعاية غير المنصفة، تتبدل النظرة إلى تراث الشعوب، فمنهم من ينعته بالتخلف، وآخر يدس فيه الكثير من أجل توظيفه لمصلحته، بينما يصادر آخرون ذلك التراث، كما هي الحال مع بعض القيم التي رسخها بعض الخلفاء العرب والمسلمين.
من تلك الحقائق الغائبة عن بال العرب خصوصاً، والمسلمين عموماً، أن أول من أسس ما يسمى التقاعد، أو كما نعرفه في الكويت "التأمينات"، هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ففي كثير من المصادر التاريخية، يروى أنه كان يسير يوماً في طرق المدينة المنورة، فرأى رجلاً يتسول، فقال له: "ما لك يا شيخ"؟
أجاب الرجل: "أنا يهودي، وأتسول لأدفع الجزية، وأطعم أولادي".
فقال عمر: "والله ما أنصفناك، نأخذ منك شاباً ثم نضيعك شيخاً، والله لأعطينك من مال المسلمين"، وأمر براتب للرجل إلى أن يموت.
في قصة أخرى عن التكافل الذي كان لدى الخلفاء الراشدين، أن "الفاروق" نفسه كان يتفقد أحوال الرعية ليلاً برفقة خادمه أسلم، فمر بجانب إحدى الخيام قرب المدينة، فسمع أنيناً، فنادى أهل الخيمة، وإذ بامرأة بان عليها الهزال، فسألها عن الأنين، قالت: "إنه أنين أطفالها"، وهي أرملة مات زوجها وترك لها أطفالاً، وليس لديها ما تقيتهم به، سوى البحص الذي تطبخه، كي ينعسوا، على أمل أنهم ينتظرون العشاء، فيما لم تكن تعرف أنه أمير المؤمنين.
فتأثر لحالها، وأسرع إلى بيت المال وحمل على ظهره مؤونة وكيس دقيق، وحين طلب أسلم منه أن يحملها عنه، قال: "هل تحمل إثمي يوم القيامة"؟ وبات يخدمها هي وأطفالها بنفسه تلك الليلة، فطبخ عنها الطعام، وطلب أن تحتفظ بالمؤونة لتلبي بها حاجتها.
لهذا، ينقل عنه (رضي الله عنه) قوله: "لو أن جملاً أو شاة أو حملاً، هلك بشط الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنه"، فهذه المسؤولية العظيمة التي على الحاكم أن يعمل بها.
منذ ذلك الوقت، كانت "التأمينات" موجودة في ذهن الخلفاء المسلمين، لأنها خير تعبير عن حقيقة دينهم، والتكافل بين الناس، لهذا إلى اليوم هناك خلفاء تبقى سيرتهم على ألسن الناس، محفوظة في التاريخ، ومن هؤلاء الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز.
فالمأثور عنه قوله: "انثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين"، وهذه العبارة ليست شعاراً في ذلك الوقت، إنما تدل على مدى رحمة وإنصاف ذلك الخليفة، الذي كان وصياً على بيت مال المسلمين، وبعد أن تيقن أن الجميع في دولته يعيش بكرامة، وليس هناك محتاج قال عبارته تلك.
هذا نموذج من الحكام الذين خلّدهم التاريخ، لأنهم كانوا يعيشون في الميدان مع قومهم، وليسوا في قصور، كما حدث مع بعض الخلفاء الذين ابتعدوا عن الناس، وبذلك هدموا أعظم الإمبراطوريات.
إذ عندما يكون المسؤول بين الناس، أياً كان منصبه، فهو يبقى على دراية بشؤون دولته، وفي الوقت نفسه، يحميها مما يمكن أن يكون مصدراً للخراب فيها.
فعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لم يسأل اليهودي عن جنسه وهويته، إنما كان يتعاطى مع الإنسان الذي قال الله عز وجل عنه: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".
هذه الإدارة التي تعمل بأمانة وأخلاق وعدل، فذلك الخليفة كان مؤتمناً على الأمة، ويسعى إلى راحتها، كي يرتاح ضميره.
ما أعظم التاريخ حين تكون فيه عبر ودروس للمستقبل! إذ ثمة دول قامت ثم أُبيدت، لكن بعض رموزها لا يزالون أحياء بين الناس، من خلال الأمثلة التي تروى عما فعلوه لشعوبهم، وفي العصر الحديث هناك نماذج عن بعضم، ليسوا من المسلمين، إلا أنهم عملوا بضمير، وكثيراً ما تحدثنا عنهم، أكان لي كوان يو، أو قادة رواندا، التي كانت في منتصف تسعينيات القرن الماضي نموذجاً للإبادة الجماعية، فيما اليوم أصبحت، بفضل أولئك المسؤولين الأمناء، مثالاً في التنمية والازدهار.
0 تعليق