في قلب شبين القناطر بمحافظة القليوبية، يتربع تل اليهودية كواحد من أعظم الشواهد على التاريخ المصري القديم، محتفظًا بأسرار حضارات تعاقبت عليه من عصور الدولة الوسطى وحتى العصر اليوناني الروماني.
هذه الأرض التي عُرفت قديمًا باسم “ني تا حت”، كانت لؤلؤة ساطعة في تاج مصر السفلى، حيث امتزجت فيها الأساطير والحقائق لتشكل إرثًا خالدًا.
بين الأساطير والتاريخ: مدينة الأسود ومعبد أونياس
في أحد فصول تاريخها، أصبحت هذه المنطقة ملاذًا لقبائل يهودية لجأت إلى مصر بقيادة زعيمهم “أونياس”. سميت المنطقة آنذاك بـ**”ليونتوبوليس”** أو “مدينة الأسود”، نسبة إلى التماثيل التي زُينت بها.
هنا، شيد اليهود معبدًا كان شاهدًا على طقوسهم وصلواتهم، لكن هذا المعبد أغلقه الرومان في عام 73 ميلادية، إيذانًا بنهاية فصل آخر من حكايات المنطقة التي لا تنتهي.
اكتشافات أثرية تسرد قصص الزمن
تل اليهودية ليس مجرد موقع أثري عادي؛ بل هو كنز مليء بالمقتنيات والآثار التي تسرد حكايات من عصور مضت. بدأت رحلة الكشف عنه باكتشاف معسكر الهكسوس الكبير عام 1906، وهو حصن يعود إلى عصر الاضمحلال الثاني.
الحفريات أظهرت كنوزًا متنوعة، منها:
تماثيل ضخمة للملك رمسيس الثاني، الذي يظل حاضرًا في ذاكرة المكان بأعماله العظيمة.
أوانٍ فخارية تتميز بأسلوبها الفريد الذي أصبح يُعرف باسم “طراز تل اليهودية”.
جعارين وبلاطات خزفية تعود إلى عصور مختلفة، أبرزها عصر الهكسوس.
مقابر صخرية ذات تصاميم معمارية فريدة تحتوي على دفنات بشرية وأخرى مخصصة للحيوانات، منها مقبرة جماعية لحيوانات ابن آوى.
تصاميم معمارية تحاكي عظمة العصور
تميزت المقابر المكتشفة بتصاميمها المعمارية التي عكست مهارة القدماء المصريين، ومنها:
المقابر الصخرية: تبدأ بدرج يؤدي إلى غرفة دفن مزودة بفجوات جانبية.
مقابر ذات آبار رأسية: تحتوي على غرف دفن متصلة بدرجات سلم.
مقابر التوابيت: بعضها بسيط وأخرى عميقة مغطاة بالطوب اللبن، حيث عُثر على دفنات فردية وأوانٍ عطرية وضعت كقرابين مع الموتى.
دور استراتيجي عبر العصور
لم يكن تل اليهودية مجرد موقع أثري؛ فقد أدرك الهكسوس أهمية موقعه الاستراتيجي، فشيدوا فيه حصنًا كبيرًا خلال عصر الانتقال الثاني.
وفي عصر الدولة الحديثة، ترك الملك رمسيس الثالث بصماته على المنطقة ببناء معبد، ما زالت قاعدته الجرانيتية تحمل اسمه حتى يومنا هذا.
تل اليهودية في عيون المستكشفين
كانت بداية الاهتمام الحديث بهذا الموقع عندما زاره الرحالة الفرنسي “مينو” عام 1825، حيث وصف التل ورسم خريطة له.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، قام الأثريان نافيل وجريفث بحفريات كشفت عن أجزاء من معبد أونياس، بالإضافة إلى مقابر منحوتة في صخور المنطقة.
رسائل من الماضي العريق
كل حجر في تل اليهودية، وكل نقش وكل قطعة أثرية، يحمل رسالة من الماضي. هذا الموقع ليس مجرد منطقة أثرية؛ إنه ذاكرة حية تختزل عظمة الحضارات التي مرت عليه.
ومن معسكر الهكسوس إلى معبد أونياس، ومن تماثيل رمسيس الثاني إلى المقابر الصخرية، تل اليهودية هو شاهد على تاريخ مليء بالأحداث والإنجازات.
إنه نبض الحضارة وسجل العصور، وحكاياته لا تزال تُروى عبر الزمن لتبقى شاهدة على عظمة مصر التي لا تنتهي.
0 تعليق