لطالما شكَّل النفط العمود الفقري للاقتصاد الكويتي، حيث وفّر عبر عقود طويلة مستويات رفاهية مرتفعة ومصدراً ثابتاً للدخل، غير أن العالم يتحول بوتيرة سريعة مع زيادة الضغوط نحو تبنّي مصادر طاقة مستدامة وتنوع الاقتصادات، مما يطرح سؤالاً جوهرياً مفاده «كيف يمكن للكويت ضمان استدامة رفاهيتها الاقتصادية؟».
والإجابة عن هذا لا تكمن فقط في البحث عن بدائل للنفط، بل في الاستثمار بالعنصر الأهم لأي اقتصاد، والمتمثل في رأس المال البشري، والذي سارعت دول عديدة إلى النهوض به واستثمرت في التعليم بشكل مثالي وربطت مناهجه باحتياجات السوق، جاعلة منه المفتاح الرئيس لتحويل التحديات إلى فرص وضمان اقتصاد مستدام يعتمد على التنوع والابتكار.
أما في الكويت وبمثل هذا التعامل وتلك الوتيرة، فإن الفجوة بين التعليم وسوق العمل مرشحة للاتساع أكثر فأكثر، فرغم أن البطالة العامة لدينا تبدو منخفضة، على مستوى 2.1 بالمئة وفقاً للإحصاءات الرسمية لعام 2023، فإن الواقع يتجلى أكثر تعقيداً عندما ننظر إلى فئة الشباب بين 20 و29 عاماً، إذ تشير التقديرات إلى أن البطالة قد تصل إلى ما بين 8 و10بالمئة، وهي نسبة تعكس قصور النظام التعليمي في تلبية احتياجات سوق العمل.
ورغم أن حكومة دولة الكويت تُخصص نحو 13.7 بالمئة من إنفاقها على التعليم، وهو بين الأعلى في المنطقة، فإن المخرجات التعليمية لا تتماشى مع طموحات السوق ولا تشكّل عائداً كبيراً على الاستثمار، في نتيجة منطقية لتركيز التعليم على المناهج التقليدية التلقينية وضعف التدريب العملي والرقمي، مما أبعد المخرجات التعليمية كل البعد عن متطلبات سوق العمل المتغير.
وفي الجهة الأخرى، يبرز تحدّ آخر يدق ناقوس الخطر، بتشكيل المواطنين أكثر من 83.6 بالمئة من موظفي الجهات الحكومية، بينما يعتمد القطاع الخاص بشكل كبير على العمالة الوافدة، التي تشكل تقريباً 78 بالمئة من إجمالي القوى العاملة به، مما يعكس خللاً هيكلياً يُضعف قدرة الاقتصاد على تحقيق التوازن والتنوع.
وأمام مثل هذه التحديات نلمح عالياً في الأفق تجارب دول عديدة يمكن أن تشكل مصدر إلهام للكويت، مثل تجربتَي سنغافورة وفنلندا، اللتين استطاعتا تحقيق قفزات نوعية من خلال إصلاحات تعليمية جذرية.
ففي سنغافورة، يسير التعليم والاقتصاد في تناغم رائع جعل من تلك الدولة التي كانت تعاني في الماضي الفقر والحاجة، جعل منها مركزاً عالمياً للابتكار والتكنولوجيا، في تحوّل مبعثه نظام تعليمي يربط المناهج الدراسية مباشرة باحتياجات سوق العمل، إلى جانب ما أتاحته الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص من إنشاء برامج تدريب متقدمة ركزت على المهارات التكنولوجية، مما جعل القوى العاملة السنغافورية من بين الأكثر تنافسية عالمياً.
أما في فنلندا، فإنها تقدم نموذجاً مختلفاً يركز على التفكير النقدي والإبداع بدلاً من التلقين، مع منح المعلمين حرية كبيرة في تصميم المناهج، مما يُتيح للطلاب تعلُّم المهارات التي يحتاجونها للمستقبل، والنتيجة نظام تعليمي يُخرج قوى عاملة قادرة على التكيف مع التغيرات الاقتصادية بسرعة وفعالية.
إذن فماذا ينقص الكويت كي تعمد إلى انتهاج مثل تلك الأساليب لتحقيق الاستدامة المطلوبة، وتُحول التحديات إلى فرص حقيقية؟ والإجابة تتمثل في اتخاذ خطوات جريئة ومدروسة تركز على التعليم كأداة للتغيير، مع الربط بين التعليم وسوق العمل بوصفه ضرورة لا مجرد خيار ممكن.
ولعل أهم تلك الخطوات هي إعادة هيكلة المناهج التعليمية، بحيث تتجه نحو المهارات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي، والبرمجة، وتحليل البيانات، كما يجب تعزيز التفكير النقدي والإبداع، بدلاً من التركيز على الحفظ والتلقين، على أن يكون ذلك مصحوباً أو مسبوقاً بإنشاء مجلس للتعليم والاقتصاد كهيئة مستقلة تجمع بين الوزارات المعنية والخبراء والقطاع الخاص، بهدف توحيد الجهود ووضع رؤية شاملة لتطوير التعليم بما يخدم الاقتصاد.
وإلى جانب ذلك، لا بُد من تعزيز البحث العلمي، بتخصيص جزء من صندوق الأجيال القادمة لدعم الأبحاث في مجالات الطاقة المتجددة، والتقنيات الزراعية، والابتكار التكنولوجي، هذا الاستثمار يمكن أن يضع الكويت في موقع ريادي إقليمياً.
ولا بُد كذلك من دعم ريادة الأعمال، عبر تقديم حوافز للشباب لتأسيس مشروعاتهم الخاصة في مجالات مثل التكنولوجيا والطاقة الخضراء، مع توفير برامج تدريب لتطوير مهاراتهم الإدارية والفنية، فضلاً عن تعزيز التدريب المهني، بإطلاق برامج تدريب متخصصة تستهدف شباب الكويت لتأهيلهم للعمل في القطاع الخاص، على غرار برنامج «نافس» الإماراتي الذي يُشرك المواطنين في القطاعات غير التقليدية.
هذا الذي ننادي به ليس ترفاً، إنما نابع من أن التعليم هو جوهر التحول الاقتصادي وأساسه، إذ تشير الدراسات الدولية إلى أن الاستثمار في التعليم يولّد عوائد اقتصادية هائلة، ووفقاً لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، كل دولار يُستثمر في التعليم يمكن أن يحقق عائداً يصل إلى 3 دولارات على المدى الطويل، وبالنسبة للكويت، فإن تحسين جودة التعليم وربطه بسوق العمل يمكن أن يحقق عوائد تفوق هذا المتوسط.
والتعليم لا يصح النظر إليه على أنه مجرد أرقام، بل هو أساس لاستدامة الاقتصاد الوطني، ومن دون تعليم قوي، ستبقى الجهود نحو تنويع الاقتصاد محدودة، وستظل الكويت تعتمد على النفط كمصدر رئيسي للدخل.
واستناداً إلى ذلك، يجب على الكويت، إذا أرادت أن تتحول إلى مركز إقليمي اقتصادي، دعوة الشركات العالمية إلى الاستثمار في الكويت، ولكن يجب أن تتقاطع هذه الجهود، أي التعليمية، مع الفرصة المتاحة، فلدى الشركات العالمية معايير عالية جداً من ناحية التوظيف، فإن لم تجد ما يلبّي احتياجها فستقوم باستقطاب أو جلب العمالة من الخارج، وهذا ما لا نرجوه، لما يترتب عليه، وهذا من خلل في التركيبة السكانية، إلى جانب عدم تحويل التكنولوجيا أو المعارف للعمالة الوطنية المحلية.
وفي النهاية، من نافلة القول أن الكويت تمتلك جميع المقومات التي تجعلها نموذجاً إقليمياً في التعليم والتنمية المستدامة، فالموارد المالية موجودة، والبنية التحتية قوية، والشباب الطموح ينتظر الفرصة المناسبة.
والتحدي الحقيقي يكمن في الإرادة السياسية والتنفيذ الفعلي للإصلاحات، إيماناً بأن التعليم ليس رفاهية، بل ضرورة اقتصادية ووطنية، والقرار الآن بأيدي صناع القرار، فهل نبدأ اليوم في بناء اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة، أم نستمر في تأجيل الإصلاح حتى تصبح الخيارات المتاحة أكثر صعوبة؟!
المستقبل يحتاج إلى تعليم قوي، واقتصاد متنوع، وشعب مستعد للتغيير، والكويت قادرة على تحقيق ذلك، والوقت حان الآن للعمل.
0 تعليق