كشف اعتماد مجلس الوزراء الأسبوع الماضي لبيانات الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2025 - 2026 عن عمق أزمة الإدارة العامة في البلاد، التي لم يعد فيها مجرد تبنّي الحكومة اتجاهات معاكسة لكل خطاباتها في الإصلاح الاقتصادي والمالي أمرا مستغربا أو استثنائيا.
لا تعكس إجراءات خفض المصروفات ولا تعبّر عن «استثنائية صلاحيات الحكومة»
فإقرار الميزانية الجديدة بحجمها المنفلت وبانحراف مصروفاتها نحو الإنفاق الجاري، وبتركُّز إيراداتها بالاعتماد المفرط على النفط، وبضآلة إنفاقها الاستثماري لطالما كان ضمن علامات متكررة خلال عقود من الإنفاق العام، خصوصا منذ بداية الألفية عندما تبنّت الحكومة توسيع سياسات الإنفاق المالي دون تحقيق أهداف اقتصادية واضحة، لتتضاعف مصروفات الميزانية بنحو 8 مرات خلال 25 عاماً.
غير أن ميزانية 2025 - 2026 تحمل بين طياتها 3 مساوئ تجعلها واحدة من أسوأ ميزانيات البلاد منذ عقود طويلة، ليس في حجم إنفاقها فقط، بل أيضا مقارنة بالظروف التي واكبت إصدارها.
منفصلة عن فهم تحولات العالم ومخاطر «الترامبية» على التجارة الدولية والنفط
خفض وعجز
فالسيئ في إصدار الميزانية الجديدة ليس في عجزها المفترض، فهو ناتج مصروفات وإيرادات، بل بأنها جاءت بعد مجموعة من خطوات خفض المصروفات المالية التي اتخذتها الحكومة، لا سيما من خلال إلغاء تأمين المتقاعدين (عافية)، والتأمين الصحي لبعض الهيئات الحكومية، فضلا عن تقليص بعض «البدلات المالية» لعدد من شرائح موظفي الدولة، بالتوازي مع رفع مجلس الوزراء القيود التي تمنع الوزارات والهيئات الحكومية من رفع رسومها مقابل خدماتها، من خلال إلغاء القانون رقم 79 لسنة 1995، ومع تقليص بعض المصروفات وزيادة إيرادات أخرى، فإن ذلك لم يقلّص من مصروفات الميزانية العامة للسنة المقبلة إلا بما يعادل 0.1 في المئة، لتبلغ 24.538 مليار دينار.
والخشية أن يفضي عدم انعكاس سياسات التقليص المالي على مصروفات الميزانية الى سلبية المجتمع تجاه أي إجراء لتقليص المصروفات مستقبلا، أو أي توجه مفترض لإصلاح الاقتصاد، فعدم القدرة على ضبط الإنفاق أمر يقلل من قناعة المجتمع تجاه أي خطوة حتى لو لبست عباءة الإصلاح.
حجمها منفلت ومصروفاتها منحرفةوإيراداتها نفطية وإنفاقها الاستثماري ضئيل
بل إن بند المصروفات الرأسمالية في الميزانية الجديدة تضمّن خفضا في الإنفاق بواقع 1.3 بالمئة، ليبلغ 2.244 مليار، مما يفتح المجال لتساؤلات عديدة حول جدية الحكومة في إنجاز العديد من مشروعات البنية التحتية الموعودة، حسب التصريحات الحكومية؛ كالمنطقة الشمالية، وميناء مبارك، والمطار الجديد، والمشاريع الخدمية المتنوعة، والتي يتطلب إنجازها زيادة جوهرية في الإنفاق الاستثماري لا تقليصه.
بل إن إعلان وزيرة المالية، أمس الأول، إدراج 90 مشروعا إنشائيا ضمن خطط مصروفات الميزانية جاء مكررا من خطط حكومية سابقة لم تحقق أهدافها أصلا، وبلا مواعيد إنجاز محددة، ولا آليات قياس أو تقييم، فضلا عن إهمال تحديد مستهدفات الإصلاح الاقتصادي كإصلاح سوق العمل أو تنمية الناتج المحلي.
عدم انعكاس التقليص المالي على مصروفات الميزانية سيؤدي إلى سلبية المجتمع تجاه أي توجه لإصلاح الاقتصاد
الميزانية تواصل تجميد استقطاع 10% من إيرادات النفط لصندوق الأجيال... وسعر التعادل يرتفع إلى 90.5 دولاراً
صلاحيات ومستهدفات
أما الأسوأ، فأن هذه الميزانية صادرة من حكومة استثنائية الصلاحيات من جهة جمعها لكل الاختصاصات التشريعية والتنفيذية في البلاد، مما يجعل اتخاذها خطوات إصلاح اقتصادي ومالي أمرا بلا عراقيل تشريعية أو حتى إجرائية، كأن تبدأ - على الأقل - في وضع أسس لسياسات إصلاحية ذات استدامة، مثل أن تعيد فلسفة الاستفادة من أملاك الدولة، لتتحول الى فرص عمل وتوفير خدمات وعوائد مالية، أو تغيير نموذج أعمال البنية التحتية لتتطور من أعمال المقاولات والمناقصات الى مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الى جانب العمل على تقليص حجم الهيكل الضخم لقياديي الوزارات والهيئات الحكومية، فضلا عن وضع سقف لمصروفات الميزانية لـ 3 سنوات قادمة لا يتم تجاوزه مهما كانت الظروف، وصولا الى تحقيق مستهدفات أكثر شمولا؛ كإصلاح سوق العمل، وتنمية حجم ومكونات الناتج المحلي الإجمالي، وتعديل التركيبة السكانية كمّاً ونوعاً، ورفد إيرادات الدولة بعوائد غير نفطية.
وهذه الخطوات المفقودة تحتاج الى برنامج عمل حكومي كان يجب أن يصدر حتى قبل إصدار مشروع الميزانية الجديدة بـ 9 أشهر تقريباً، وهو ما يشير الى أن واقع الإنفاق العام في الكويت إنما هو مجرد متحصلات بيع النفط وصرف أمواله دون خطة أو استراتيجية أو هدف.
الحكومة لا تستخدم صلاحياتها في الاستفادة من أملاك الدولة أو تغيير نموذج البنية التحتية أو تقليص هيكلها الضخم أو لوضع سقف سنوي للمصروفات
الميزانية تتجاهل سياسات ترامب وآثارها على سلاسل التوريد وأسواق الطاقة والنمو العالمي
عامل ترامب
أما الأسوأ على الإطلاق، فتمثّل في إصدار الميزانية الجديدة بالتزامن مع تحولات اقتصادية دولية غير مسبوقة تمحورت حول قضيتين؛ الأولى الحرب التجارية من خلال الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على جارتيه كندا والمكسيك (وقد جمّدها مؤقتا لشهر)، وعلى الصين أكبر مستورد للنفط الخام وثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتلويحه بفرض رسوم مماثلة على أهم شركائه التجاريين، أي الاتحاد الأوروبي، أما الثانية فإعلان ترامب صراحة سعيه لخفض أسعار النفط العالمية، وزيادة المعروض النفطي، وتوسع عمليات الحفر والإنتاج الأميركي، وهذه كلها سياسات تفرض معايير وقواعد غير مسبوقة على التجارة الدولية وسلاسل التوريد العالمية وأسواق الطاقة والنمو الاقتصادي العالمي، ومقابل كل هذه السياسات والإجراءات والتداعيات المتصاعدة المخاطر، تصدر الكويت ميزانية منفلتة في مصروفاتها معدومة في تحوطها لدرجة استمرارها - منذ جائحة كورونا - في تجميد بند استقطاع 10 بالمئة من إيرادات النفط لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال، وهو ربما الإجراء الوحيد الذي كان يُصنّف كإجراء تحوطي لتدعيم أصول الدولة مقابل انفلات مصروفاتها، ومع ذلك لم يتم اتخاذه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن سعر التعادل في الميزانية الحالية ارتفع عن العام الماضي بـ 0.66 بالمئة، ليبلغ 90.5 دولارا للبرميل، مما يؤكد الانفصال عن تداعيات سوق الطاقة العالمي وضغوطه.
إدراج 90 مشروعاً إنشائياً ضمن الميزانية جاء دون مواعيد إنجاز محددة ولا آليات قياس أو تقييم فضلاً عن إهمال تحديد مستهدفات الإصلاح الاقتصادي
انتقادات ذاتية
والمؤسف أن تصدر ميزانية الدولة بهذه الطريقة التي تتضمن جميع الانتقادات التي تصدرها الحكومة نفسها لسياساتها المالية من حيث الهدر المالي، أو حتى غياب ملامح الإصلاح لسوق العمل والدعوم، في وقت ينفصل فيه صانعو السياسة المالية في البلاد عن واقع التحولات الاقتصادية الدولية أو مخاطر «الترامبية»، خصوصا على أسعار النفط لدولة كالكويت التي تعتمد في مصروفاتها، وبل وحتى اقتصادها غير النفطي، على إيرادات مبيعات الخام وأسعاره المرتفعة نسبياً.
0 تعليق