كان لإحدى الأمهات (ابن) تأخر في النطق، وسعت جاهدة في سبيل تخليصه من هذه الحبسة، عرضته على الفقهاء، والمشعوذين، وأجمعوا أن صمته أبرك له، لكنها لم تيأس، فأطعمته الحامض والحاذق، ليفك شفتيه بكلمة (أحّ) وما من فائدة، وذات صباح سرحت تستقي، وربطته بمؤخرة ثوبه في زافر البيت، وتركته وحيداً، وجاءته إحدى بنات الجيران تلعب معه، فنطق، وانفكت عقدة لسانه، وعادت أمه بالقربة وكادت تطيرُ فرحاً وأهدت بنت الجيران فتخة، ومعصباً أحمرَ.
هذا الصبي حديث العهد بالكلام، كلما رطن، تناوشته القُبلات، وقوبلت كلماته بالضحكات والتعليقات المستبشرة خيراً، وصارت الثرثرة فيه طبيعة، ومع الأيام؛ صار يحوس الدنيا حوساً، وزادت فلتات لسانه، ما مثّل إحراجاً لوالدته بين قرابتها، خصوصاً عندما يطرح أسئلة يندى لها الجبين، فقررت تثقّل لسانه، إذا استقبلت ضيوفاً، أو زارت جيرانها، ووجدت طريقة مناسبة بأن تضع في فمه خرزة كبيرة تثقّل حركة اللسان، وإذا شافت عيونه تبارق، أخرجت الخرزة وسألته؛ وش تبغي تقول؟ إن ناسبها الكلام سمحت له يتكلم، ثم أعادت الخرزة مكانها، وإن لم يناسبها لقمتها خرزته.
مع الأيام صارت الشطحات أقلّ، والزلات تتراجع، والأم تحتاط بأكثر من خرزة، وتعلمت نسوة القرية من هذه السيدة التي نجحت في فرملة طلاقة لسان ابنها ذا التعبيرات المخجلة والمورطة، فانتهجوا مع الأبناء الهذرين (وصفة أبو خرزة).
وفي زمن قديم، قال أحد حكماء القُرى؛ ليت لي رقبة كما رقبة البعير؛ لكي يمديني ألحق على الكلمة التي ما هي جيدة ولا طيبة قبل ما تخرج، وارتدها في صدري، لكن رقبتي كما حُنحنة الطير؛ ما يمديني أفرّج شفتيّ إلا وهي كما رصاصة الغشيم، ما تصيب إلا الصديق والرفيق.
ومثلما كان هناك بديع الزمان الهمذاني، صار هنا أكثر من بديع زمان هذياني، ويا كم ناس غابوا وما جابوا، وكم من سبع غاب وجاب، ومراعاة الاعتبارات القولية حاضرة في ذهن من كان غنيّاً ثم افتقر، وغائبة عن وعي من كان فقيراً فاغتنى، وما أبدع قول رسول حمزاتوف (يظل أهلنا يعلمونا الكلام طيلة عامين، ثم يُقضون بقيّة أعمارهم لكي يعلمونا الصمت).
الذي قال تكلّم لكي أعرف من أنت، (مُخبِر شيطاني) يعيش على ما يسمع، ومثله الذي قال بالشعبي (رأس ما يتهرج دباة) وفي زمن التواصل الاجتماعي، الخطر عمّ وطمّ؛ فالكلام بضاعة مزجاة، والصمت خُلق مهمل.
وسائل التواصل تُغري بالكلام، ولو فارغاً ومجانياً، بل فضاء التواصل ثرثار بطبعه، يستثيرك لتحكي، لكنه لا يحميك، ولا يعنيه غيابك، فشهوة الحكي متلبسة الخلق، وما صدّق كثير منهم أن تتاح لهم فرصة السوالف، ولو لم يمكنهم الإصغاء لبعض.
ومن الحكمة، أن ندرك أن تقييم الآخرين لنا، ليس على مستوى واحد، ولا من زاوية واحدة، فتقييم القاعد للقائم، غير عن تقييم القائم للقاعد، وزاوية النظر تضيق بها العبارة، ويتبحبح فيها المعبّر؛ إذا ما علمنا أن المتكئ يرى الأشياء مائلة، وزاوية نظر المنسدح تختلف عن القاعد والقائم، فهو يشوف أو يتهيأ له أنه يشوف بينما هو يرى بالمقلوب، وإذا قال أحدهم عنك صغير، فقل اللهم اجعلني في عين نفسي صغيراً، وفي أعين الناس كبيراً، ومن قال عن منطقتك مثلاً صغيرة، فهو بحاجة للعودة لدراسة التاريخ والجغرافية وسِيَر الرجال.
يقال إن الصمت قِناعُ الكلام، والسكوت حبل الأفكار الواصل بين جهتين وأكثر؛ وكم مرة كان الكلامُ فائضاً عن الحاجة، فليس كل خطيبٍ مفوّه، ولا كل مفوّه خطيباً، وحقاً (ما أسهل الكلام) وربما لا يدرك بعضنا بأن اللباقة واللياقة في الحديث حظ، والدنيا حظوظ، وحظ البعير في سنامه المتعليّ، وباقي حياته شقى.
0 تعليق