«الجدل».. فن الحوار والنقاش

الوفد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

الجدل نوع من الحوار والمناقشة يتصف بالصراع والخصام والنزاع الكلامي، بين فردين لهدف تحقيق الغلبة بإظهار الاتجاهات والمذاهب والآراء، بالأدلة ونفي حجج الخصم ودحضها وتفنيدها من أجل احقاق حق، أو ابطال باطل، أو من أجل ابطال حق أو احقاق باطل. وينقسم الجدل إلى نوعين، الجدل المحمود: وهو ما كان مستندا فيه المجادل إلى ثوابت علمية أو براهين عقلية ونقلية بهدف احقاق حق أو ابطال باطل. أما الجدل المذموم المنهي عنه: وهو كل حوار افتقر إلى الجدية والفائدة، أو لم يكن مستندًا إلى أية ثوابت أو براهين عقلية أو نقلية، أو كان متعلقا بتقرير باطل. وماذا يعني هذا المصطلح في الحقل الفلسفي؟

عزيزي القارئ مصطلح "الجدل" من أصل يوناني (باليونانية: διαλεκτική – بالإنجليزية: Dialectic) ويُقصد به أنا أناقش، أتحدث، أحاور، وهو يعني في الاصطلاح الفلسفي، علم القوانين العامة لتطور الطبيعة والمجتمع، ونظرية ومنهج دراسة ظواهر الواقع في تطورها، في حركتها الذاتية الناشئة من التناقضات الداخلية، أو بعبارة أخرى "علم عن التطور التاريخي الشامل أو الحافل بالمتناقضات".

إلا أن مصطلح الجدل قد أخذ معاني متعددة في المدراس الفلسفية المختلفة؛ فنجد السفسطائيون استخدموا المنهج الجدلي كأداة تقنية مهنية تعليمية نقدية معًا. فكانوا خبراء بلاغة وخطابة يبيعون قوة تخصصهم مقابل أجر، مارسوا فن إنشاء الإنسان بتوسط الكلام أي مهنة التعليم. لذلك نجد أن السفسطائية قد نحتت مفاصل الجدل وإشكالياته المنهجية التي ستلازمه في مراحل تطوره اللاحقة من أفلاطون إلى هيجل وماركس وصولًا إلى اعتراضات ونقد الفكر المعاصر.

وإذا انتقلنا إلى سقراط نجد أن الجدل عنده تركز على نقاط مضادة لخصمه السفسطائي، وهم على النحو التالي:

1- ثقة تامة بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة. 2- إمكانية انشاء مقاييس ثابتة لها. 3- التساؤل المستمر حول النتائج التي يتواصل العقل إليها. 4- الحوار التوليدي منهج الحقيقة. 5- اللاعلم أو الجهل السقراطي، فالفلسفة لا تٌقدم حلولًا جاهزة وعقائد إنما تشق طرقًا وتفتح آفاقًا جديدة. وفي جملة واحدة، الجدل السقراطي هو، مناقشة على حوار وسؤال وجواب.

ومع وصولنا إلى أفلاطون نجد أن الجدل عُرِفَ بشكل أوضح وأعمق.  فقد بدأ بوضع نظريته في المعرفة معتمدًا على منهجه في الجدل؛ حيث لاحظ أن الحوار هو الطريق الوحيد للبحث عن الحقيقة ومن ثم الطريق الوحيد للبحث في الفلسفة، ولذلك ذهب أفلاطون إلى أن الجدل هو المنهج الذي يرتفع به العقل من المحسوس إلى المعقول دون وسيط حسي ولذلك وصفه بأنه العلم الكلي بالمبادئ الأولى، فالجدل منهج وعلم وهو المقابل لما اصطلح على تسميته بنظرية المعرفة Epistemology.

كما شهد الجدل تطورًا مع أفلاطون، وقام بتقسيم الجدل إلى قسمين، الجدل الصاعد والجدل الهابط، الأول: يُقصد به الصعود من ماهيات الأشياء إلى العالم المعقول، وبالتالي الوصول إلى المثل. أما الثاني: وقصد به النزول من المثل إلى ماهيات الأشياء، وهنا نستطيع القول بإن الجدل يُعد جزءًا من نظرية المعرفة.

ولهذا نجد أن أفلاطون أقام الديالكتيك على ثلاث قواعد:

1- التعريف: بد الحوار بتحديد المفهوم وتعريفه. 2- التركيب والتحليل طريقان: وهما الجدل الصاعد والهابط. 3- الحركية: ويستمر من التعريف إلى التركيب إلى التحليل إلى التفريق.

وإذا ما وصلنا إلى العصر الحديث ودخلنا إلى الفلسفة الهيجلية، نجد أن الجدل عند هيجل اتصف بمنطق الفكر وقانون الوجود؛ فكان أول من صور العالم عملية من الحركة الصاعدة الشاملة من التطور من الدرجات الدنيا إلى العليا، وقال بأن مصدر هذه العملية وقوتها الدافعة هو التناقضات التي تلازم كافة الظواهر وتشكل القوة الحيوية لكل الموجودات، كما قام هيجل بصياغة قوانين هذا التطور الأساسي ووضع نسقًا "لمقولات الديالكتيك".

وختامًا، نجد أن الجدل فنًا للتحاور بغية الوصول إلى الحقيقة، بطرح الفكرة والفكرة المضادة لها بشكل استدلالي عن طريق السؤال والجواب. وفي عبارة واحدة، الجدل هو الأداة الوحيدة التي تستطيع تحرير الأفكار من سجنها، وتوليد معنى وفهم جديد لها، وبالتالي هو الكاشف عن ماهية الفلسفة.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق