هكذا رأيت

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عندما سمعتُ صوتَه ينبعث من جديد من أحدِ الأركان الصغيرة فى الشَّقَّة، وبالتحديد من ركنى المُفضل، الذى أحتسى فِيه قهوتى وأتصفحُ الأخبارَ صباحًا؛ أحاطنى الخوفُ والحزن. جافيتُ المكانَ أيامًا لكنَهُ أَبَى أن ينقطع... ظلَ يواصلُ الليلَ بِالنهارِ صوتًا مُؤرِقًا مُتعِبًا مُحطمًا للأعصاب.. عاندتُه، جلستُ قُبالتَهُ بالساعاتِ فى تحدٍ!

الصوتُ ينبعثُ من طاولةٍ خشبية اشتريتُها منذُ سنوات، مستديرةٍ صغيرة الحجم، بلون الزيتون مُضلعة، وضعتُ عليها «صينية وسبرتاية وكنكة كلها من النحاس للقهوة وفنجانًا واحدًا»... فأنا أعيش بمفردى..

الطاولةُ قابعةٌ أَمامَ النافذةِ المفتوحةِ دائمًا بستائرِها المخملية.. هواؤها لطيفٌ رطب.. وحفيفُ الأشجارِ المتوارى خلفَ ضلفتيها يعزفُ ترانيم شَجية، مثل عازفٍ ماهرٍ يخجلُ من مواجهة محبيه.

أنثرُ حبوبَ القمحِ صباحًا على حافة الشرفة، تجتمع طيور الحمام بهديلها الأخّاذ؛ فأتابعُها بِحنو. رأيتُ فى هذا الجانب مِن الشقةِ مُتْعتى.. لكنَ الصوتَ أخذَ يعبثُ بذاكرتى، يستدعى أحداثًا مُخَبأَةً فِى طى الكتمان، أَتذكر.. ذلك اليوم الذى كان والدى على غيرِ عادته قد كسا ملامحَهُ قلقٌ يفيضُ بالحيرة، كان يجلس شارد الذهن، من خلف دُخَان سيجارته رأيته مهمومًا حزينًا. أقبلت عليه لأحتضنه وأطبع قبلاتى على وجنتيه كما اعتدت كل صباح.

وما أن اقتربت منه حتى دفعنى برفق بيده اليمنى وباليسرى أشار لى بأن أنصت.

كنت فى العاشرة من عمرى، لم أفهم ما يقصد، شعرت بضيق من أنامله التى لامست صدرى تدفعه.. وبكيت.

نهرنى بشدة كى أصمت.. أغمضت عينىّ فى حنق، زممت شفتىّ، كتمت صوت بكائى، وسمعت صوتًا غريبًا لم أسمعه من قبل.

كان يأتى مستترًا من مكان ما فى الشقة.. صوت يشبه النخر.. كان ضعيفًا خفيضًا عندما التقطته أذناى من وَسَط نحيبى، لكن بعد مرور دقائق ارتفع بشكل مستفز.

أحاطنى الخوف..

تابعتُهُ بعينينِ مُندهشتينِ وبداخلى الكثيرُ من الأسئلة.. وقد تبدلتْ نظراتُ عينيهِ الهادئةِ لأخرى زائغة.. غائمة!

كلما هممْتُ أن أسألَه عمّا يفعل؛ أتراجع، أَلوذُ بالصمت، أنكمشُ فى مقعدى، يبتلعُنِى الخوف، كانَ أبِى يطارِدُ الصوتَ نفسَه الذى لا ينقطع، صوتًا جليًا تسمعُه من كلِ مكانٍ بالشقة، كان مصدرُه مقعدًا صغيرًا فِى حُجرةِ نومِه، وقد أصرَّ أَبِى على أن يجهَزَ على ذلِكَ الصوت!

شرعَ فى جمعِ كل ما يحتاجُ إليه، نثرَ كلَ ما يمتَلكُ من أَدواتِ النجارةِ حولَه، وجاء ببعض المبيداتِ الحشرية.. قلبَ المقْعدَ عِدةَ مرات، طرقَ على الأرجلِ التى ينبعثُ منها الصوتُ بشدةٍ طرقاتٍ مُتتاليةً حتى عرفَ من أَين يأتى.

كانَ مصدرُهُ إحدى أَرجلِ المقْعدِ الأربع، أخذَ نفسًا عميقًا، وتهيأ للمهمة، سدّدَ نظراتِهِ نحوَ المقْعد.. وقد اِنْعَكستْ فيها سنواتُ عمرِهِ.. ذكرياتُه... لوحاتُهُ الفنيةُ التى تصْطفُ بالعشراتِ فى الحجرة، يُراوغُهُ الصوتُ، يختفى للحظاتٍ من شدةِ الطرقِ ثم يعودُ أَقوى من الأول.. يشتدُ ليلًا ويهادنُ نهارًا.

بمكرٍ وخبثٍ وخسة.. ينخرُ فى الخشبِ بِضراوةٍ، يتركُ على الأرضِ بقايا النشارة.. نجمعُها ليلًا لنجدَ فِى صباح اليوم التالى أكوامًا أَكبر وأكبر.

يختفى ساعات، يرتاح أبى، نعتقد أننا أجهزنا عليه. يضمنى لحضنه، يجدل ضفيرتى.. يغنى لى.. يخرج أوراقه وألوانه، يفتح النافذة وتجتمع الطيور.

 

ثم يعود الصوت يراوغنا من جديد.. يتكور أبى فى مقعده، يحتضننى بشدة، يوصينى ما أحزن. 

استسلم أبى بعد أيام من المحاولة، بصوت مهزوم قال:

سأموت لا محال، هذا الصوت نذير شؤم.. إنه يخبرنى بساعة اللقاء.

شعرتُ من كلامِهِ كأنّ شخْصًا دفعنى لبئرٍ مظلمة، كنتُ أَسمعُ صدى صوتى وأنا أَطلبُ منهُ أن نلقى هذا المقعدَ بالخارج، أن نعود مُجددًا كما كنا أُسرةً لا تَحسبُ للموتِ حسابًا.

 

اِبتسَمَ ابتسامةً حانيةً وربَتَ على كتفى، ضمنِى فى حضنِهِ حتّى غفوْت، حلمتُ بهِ فى الليلة ذاتها؛ إذ كنتُ أَحيا بينَ ذراعيهِ، أَمطرُهُ بالقبلات، أَضحكُ معَه، أغنى له، وفجأَة.. أَصبحَ الاقترابُ مُستحيلًا.. لا تفصلُنى عنه سوى بضعة سنتيمترات، ومع ذلك لا أَستطيعُ أن ألمسَه، أحاطَهُ غلافٌ من البلاستيك المُقوى الشفاف.

 

لمْ أَعدْ أَستطيعُ سماعَهُ أو تقبيلَهُ أو الغناءَ له أو.. وفى الصباح ماتَ أبى، وخرسَ الصوت..

لمْ أَسمعْهُ بعدَها، وظلَ المقْعدُ موجودًا فى بيتِنا، برجلِهِ التى تآكلتْ ونخرَها السوسُ شاهدًا على اللحظات الأخيرة.

اليوم بعدَ خمسينَ عامًا؛ يعودُ هذا الصوتُ من جدِيد، يحفرُ أنفاقًا وثقُوبًا فى عقلى.. يستكثرُ علىّ مكانى المفضلَ فى آخرِ أَيامى.. يُؤرقُنى طَوالَ الليل.. فلا أَنعمُ بالراحة، وأَبيتُ ليلِى أَدعو اللَّهَ بأن ارتاحَ من هذا العذاب.. وأحسبُ أَلفَ حسابٍ للحظةِ اللقاءِ المهيب..

«يقال إن الموتى فى أيامهم الأخيرة لا يفصحون عما يتراءى لهم، هكذا آمنت ورأيت».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق