لم تكن قريتى تختلف كثيرًا عن باقى قرى الصعيد.. لم تكن قرية غنية على الإطلاق.. أهلها جميعًا يعملون فى الزراعة.. لم يكن هناك أطباء أو أساتذة جامعة أو ضباط أو مهندسون.. كنا كذلك فى أواخر ستينيات القرن الماضى.
الأغنياء قلة امتلكت المال والجاه والقوة بالوراثة.. كان الجميع راضين.. مَن يملك فدانًا ومَن لا يملك.. كان العلماء ندرة.. وأغلبهم من أبناء الأزهر.. وكان الكل يقدسهم ويبجلهم.. هُم والمدرسون.
كانت المدارس قليلة أيضًا.. مدرستان أو ثلاث.. وجمعية زراعية ومستشفى وجامع كبير تبرع بها أحد الباشوات.. من زمن بعيد.
كانت الحياة روتينية.. أرض.. وماء.. وكمبوشة.. وبهايم نطرز لها الجلال من الخيش فى الشتاء وننزل بها الترع فى الصيف هربًا من القيظ.. وكنا سعداء.
الملابس مرتان فى العام.. جلابية فى الشتاء وأخرى فى الصيف.. من الكستور.. والملابس الداخلية من العبك.. أما الصوف والكشمير فهذه نسمع عنها فى سهرات المديح والهلالية.
كانت البيوت تطبخ اللحوم بأنواعها مرة واحدة فى الأسبوع.. يوم الخبيز.. وهو أسعد الأيام بتفاصيله الكثيرة.. من أول الصباح وحتى هبدة النوم بعد العشاء.. ولم يكن هناك سوى الراديو الخشب.. لكن كان هناك صوت المنشاوى ناعمًا.. حالمًا.. مبكيًا أحيانًا.. خاشعًا فى كل وقت.
كانت حجرة الخزين فى أى بيت هى أهم الحجرات.. فيها مكبات العسل والسمن والزبدة والرايب.. والطحين.. ودوارق الفول والقمح والذرة وعلاوى المش والجبنة القديمة.. وفوق السطح بصل وتوم.. وأسراب حمام وسماء مفتوحة.
كنا سعداء.. ف الليل فيه قمر ونجوم.. وف النهار ضحى وشمس.. وعرق وابتسامات.. وساعة قيلولة.. فى ظل شجرة.. أو فى ضل حيط.. وكنا سعداء.
خمسون عامًا فقط.. ولم تعد قريتى كذلك.. لم تعد كل القرى كذلك.. صارت مسخًا.. ومرتعًا لحكايات الذين اختطفهم الشابو.. والذين سرقتهم الغربة.. امتلأت البيوت بالكهارب.. والدش.. والموبايلات.. والسيراميك والبورسلين.. وامتلأت شوارعنا بمحلات البيتزا.. والكريب.. وخلت بيوتنا من أى طيور.. حتى الكلاب والقطط لم تعد هناك.. ولم نعد سعداء.
لا يمر أسبوع دون أن ألتقى أحد أبناء قريتى.. ولم ألتقِ أحدهم إلا ومعه عشرات الشكاوى من حال الصعيد الذى لم يعد سعيدًا.. تورطنا فى قرى الاستهلاك التى خلقها زمن السادات وغرقنا فى ترهات الخليج.. ولم يعد الأزهريون فى الصدارة.. وضاعت هيبة المدرس.. امتلأت القرية بعيادات الأطباء والمتاجر والمولات.. ولم تعد هناك دواوير.. ولا ضحكات.
الآن.. جف نبع الخليج أو يكاد.. وانهارت أو كادت بقايا أرباح العقارات.. ارتفعت أسعار الحياة اليومية.. وبلغت ميزانية تعليم الأبناء والأحفاد حدًا مرعبًا.. لم يعد هناك شبر خالٍ للبناء عليه.. قيراط الأرض فى الزراعة بمليون جنيه.. نعم.. ومتر الأرض تعدى مئات الآلاف فى بعض الأماكن.. الشقق فى المدينة تجاوزت الخمسة ملايين منذ سنوات.. تكلفة زواج الأبناء فوق الخيال والقدرات.. ولا أحد يستطيع العودة إلى زمن الحجرة فى بيت الأهل.. والسرير والدولاب والسحارة.. الكل يحن إلى ذلك الزمن لكنه لا يستطيع العودة.. كما أنه لا يستطيع مجاراة ما نعيش.. الصعيد محبط والريف فى بحرى لا يختلف كثيرًا.. والحيل المعتادة تنفد.. حيلة بعد أخرى.. أغلبنا يزق الأيام زقًا.. ومعظمنا يغنى.. بعدى ع الأيام أرمى السلام وأمشى.. هكذا نعيش.. لكننا وفى نفس واحد.. وفى ذات اللحظة نقول بصوت عالٍ لترامب ورفاقه.. كان غيرك أشطر.. لا تراهنوا على ظروفنا وأيامنا الصعبة.. فربما كانت هى النار التى تصهرنا لنتحول جميعًا فى لحظة الخطر إلى أسوار تحمى هذه البلاد التى نحب.. الذين يرمون السلام ويمشون لا يبالون فى هذه البلاد كثيرون.. بالملايين.. وليس لهم إلا هى.. فلا تعبثوا معهم.
0 تعليق