إضاءة في كتاب.. قصة سيدنا موسى عليه السلام في سورة طه

العربية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. علي محمد الصَّلابي

لم يقتصر القرآن الكريم على أسلوب واحد في إيصال رسالته إلى الناس، وإنّما تعدّدت أساليبه، بين أسلوب الحوار، أو ضرب الأمثلة، أو الأمر والتوجيه والإرشاد المباشر، وغيرها... ومنها: أسلوب القصّة القرآنيّة، الّذي كان ظاهراً جليّاً في كتاب الله تعالى، وفي هذا الأسلوب الفريد والمميز (أسلوب القصّة القرآنية) خصائص وميزات تفضلها على غيرها من القصص المؤلَّف، بما يمنحها السموّ والعلوّ في القدر والمنزلة الّتي تميز بها القصص القرآني السماوي على غيره من القصص العادي البشري. والقصص القرآني يسمو إلى الغايات النبيلة والأهداف الدينيّة التي فيها هداية البشر ونجاتهم في الدنيا والآخرة.

القصص القرآني هو الحقّ والصدق من الله تعالى، فهو ربانيّ المصدر، ولقد وصفه الله تعالى بذلك كما في آيات كثيرة ولقد نقلت القصة القرآنية واقع الإنسان بخيره وشره، بقوته، في أدق صورة وأوضح مثال. وبما أنّ القصّة القرآنيّة ربانيّة المصدر فإنّها قصص حقّ، وهذا يعني أنّ كلّ ما ورد من وقائع، وشخصيّات وأزمنة، وأمكنة له في عالم الواقع وجود، باعتبارها قصّة تاريخيّة فالصدق فيها صدق واقعيّ، فليس فيها تلفيق، أو اختراع، أو بناء أحداث على أساس من الخيال، وإذا كان فيها من أخبار، أو شخصيّات لم يرد عنها في التّاريخ ما ورد في القرآن الكريم، فإنّ القرآن حجّة على التّاريخ؛ لأنّه تنزيل من حكيم خبير، ولأنه النصّ الدّيني الوحيد الّذي يسلم في تاريخ البشريّة من التحريف والّتزوير( ). والقصّة القرآنيّة لا تحلّق بالإنسان في عالم المثاليّات الّتي لا وجود لها في عالم الواقع، بل تخاطبه على أنّه بشر له طاقة محدّدة لا يمكن أن يتجاوزها. فالقصّة القرآنيّة واقعية لا تخرج عن حياة البشر، ولكن هذه الواقعيّة رغم عدم إنكارها لحالات الهبوط، وواقعيّـها، إلّا أنّها لا تمجّدها وتسلّط الأضواء عليها، كما تفعل بعض القصص البشريّة. ورغم أنّ القصص القرآني واقعيّ، إلّا أنّه قصص نظيف لا يستطرد في عرض الفاحشة، فلا يعرضها لإثارة تلذذ القارئ، أو السّامع بمشاعر الجنس المحرّفة، بل يذهب سريعاً إلى ما وراءها من العاقبة والعبرة. فلحظة الجنس - منحرفة أو غير منحرفة – لا تستأهل الوقوف عندها بأكثر من مجرّد الذّكر؛ لأنّها عارض يعرض في الحياة ويمضي، يمضي ليفسح المجال لأهداف الحياة العليا الجديرة بالتحقيق( ).
وسنتناول في هذا الكتيّب قصة موسى - عليه السلام في سورة طه - وهي سورة مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة آية، وهي تبحث عن الأهداف نفسها للسور المكية، وغرضها الأساسي التركيز على أصول الدين من التوحيد والنبوة والبعث والنشور ( ).
وتبدأ هذه السورة وتختم بخطاب الرسول - ﷺ - ببيان وظيفته وحدود تكاليفه وفي شدّ أزره وتقوية روحه، حتى لا يتأثر بما يلقى إليه من السفاهة والعناد والتكذيب ولإرشاده وتذكيره بوظيفته الأساسية الإبلاغية، وعدم إجباره الناس على الإيمان ( ).
وبين المطلع والختام تَعرِضُ سورة طه قصة موسى عليه السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر مفصلة مطولة، ولا سيما موقف المناجاة بين الله ونبيه موسى عليه السلام، وموقف الجدل بين موسى وفرعون، وموقف المبارزة بين موسى والسحرة.
وتتجلى في هذه القصة رعاية الله تعالى لموسى وحفظه من الولادة وحتى إهلاك أعداء الله، وفي ثنايا سورة طه تبرز بعض مشاهد يوم القيامة في عبارات يرجف لها الكون، وتهتز لها القلوب هلعاً وجزعاً، كما عرضت القصة يوم الحشر الأكبر، وفيه يتم الحساب العادل ويعود الطائعون إلى الجنة ويذهب العصاة إلى النار، وتعرض السورة قصة آدم سريعة قصيرة تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطئِه، وهدايته له، وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدي أو ضلال بعد التذكير والإنذار، ومن ثم تختم هذه السورة ببعض التوجيهات الربانية للرسول -ﷺ- في الصبر وتحمل الأذى في سبيل حتى يأتي نصر الله ( ).

التعريف بالكتاب وبأصله:
يعدّ هذا الكتيّب: « قصة سيدنا موسى عليه السلام في سورة طه» جزءاً من كتاب «موسى (عليه السلام) كليم الله؛ عدو المستكبرين وقائد المستضعفين»، والذي هو تتمّة لموسوعة أولي العزم من الرسل، الذي أعان الله عزّ وجل على إتمامها، والتي عشت معها سنين عدّة باحثاً، ومتعلّماً، ودارساً في هذه المدرسة الربّانيّة العظيمة.

6 فصول
وقد قسّمت الكتاب الأصل إلى ستّة فصول، بحثت في الفصل الأول جذور بني إسرائيل التاريخية وحياتهم في مصر، ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول: جذور بني إسرائيل التاريخية، وذكرت في هذا المبحث مواضع ورود يعقوب (عليه السلام) في القرآن الكريم، ومواضع ذِكْر اسمه الثاني «إسرائيل» في القرآن الكريم، وعن شجرة النبوّة الإبراهيميّة من الفرع الإسماعيلي والفرع الإسرائيلي، وعن أنبياء الفرع الإسرائيلي، وعن ختم النبوّة بالفرع الإسماعيلي، وعن بداية تاريخ بني إسرائيل من يعقوب عليه السلام، ومن هم الأسباط؟ وماذا تعني؟ وهل هم أنبياء؟ وعن الاسم الثاني الذي اشتُهر به أتباع موسى (عليه السلام) «اليهود»، ومتى بدأ هذا الاسم؟ وعلى ماذا تدل هذه الكلمة «اليهود»؟ وعن كلمة «اليهود» في الاصطلاح وفي السياق القرآني، وعن التفرقة بين اليهود وبني إسرائيل، وعن موقف المسلمين من أنبياء بني إسرائيل، وعن معنى «العبريّون».
وفي المبحث الثاني: كان الحديث عن حياة بني إسرائيل في مصر من مجيء يوسف (عليه السلام) إليها، وهجرة يعقوب وبنيه إلى مصر ووفاته، ووفاة يوسف عليه السلام، وعن حكم الفراعنة لمصر وهزيمة الهكسوس، وعن فرعون والفرعونيّة، وأسباب اضطهاد بني إسرائيل.
وفي الفصل الثاني: موسى عليه السلام: اسمه ونسبه ومولده ومكانته بين الأنبياء والمرسلين، وعن السّور التي ذُكر فيها موسى وهارون في القرآن الكريم والتي ذُكر فيها اسم فرعون والتي ذُكر فيها بنو إسرائيل واليهود.
ففي المبحث الأول: ذكرْتُ موسى (عليه السلام): اسمه ونسَبه والبيئة التي وُلد فيها.
وفي المبحث الثاني: موسى عليه السلام ومكانته بين الأنبياء والمرسلين، وعن النبي والرسول في اللغة والاصطلاح، وعن النبوّة والرسالة، وعن الأدلّة في كون موسى (عليه السلام) «من أولي العزم»، وعن حقيقة النبوّة، وعن الحكمة من بعث الرّسل، وحاجة الخلق إليهم ودعوة الناس إلى عبادة الله، وإقامة الحُجّة على البشر بإرسال الرّسل، والأنبياء هم الطريق لمعرفة العقائد الغيبيّة، وحاجة الخلق للقدوة الحسنة، وعن إصلاح النفوس وتزكيتها، وعن تحقيق غايات عظمى ووظائف كبرى من دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه وتبليغ الشريعة الربانيّة إلى الناس وتبشير وتحذير العباد وشهادة الرّسل على الأمم يوم القيامة، والاستفادة من سنن الله في الأفراد والشعوب والأمم والدول، وتعليق القلوب والأرواح بالانتظام في سلكِهم والسّير في موكب الأنبياء والمرسلين المبارك.
وأن دين الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام واحد ودعوتهم واحدة، وأن الإيمان بالأنبياء والمرسلين من أركان الإيمان، وأن الإسلام دين الأنبياء جميعاً وأن أول عقيدة في الأرض هي التوحيد، وأن دعوة الأنبياء والمرسلين واحدة خالصة لربّ العالمين وأن الاتفاق في الأصول والخلاف في الفروع بين رسالات المرسلين من الله تعالى.

إخترنا لك

0 تعليق