لم يكن يعلم الشاعر وائل هلال عندما كتب كلماته العذبة لأغنية "بحلم على قدي" عام 1988، أن الشراع الذي تغنّت به الأغنية سيصبح ذات يوم مجرد ذكرى تبحر في وجدان من عاشوا زمنه، حين غنّى مدحت صالح تلك الكلمات على ألحان فاروق الشرنوبي، كانت المراكب الشراعية لا تزال تزيّن النيل والبحر، تروي حكاياتها مع الريح، وتبحر بنبض الحياة، لا بمحركات صاخبة.
![995.jpeg](/Upload/libfiles/466/3/995.jpeg)
بعد ستة وثلاثين عامًا، تلاشت هذه المراكب من المشهد، تمامًا كما تتلاشى الأحلام الرومانسية أمام صخب الواقع، ولم يعد "الشراع" هو الذي "يعدّينا"، بل استُبدل بالمحركات الحديدية التي تخدش وجه الماء بضوضائها، وتطمس معالم المهنة التي كانت يومًا جزءًا أصيلًا من ثقافة الصيادين والرحّالة.
رحلة بحث عن المراكب المفقودة
في هذا التحقيق، نبحر في رحلة بحث عن المراكب الشراعية التي اختفت، نلتقي بمن تبقى من أهلها، ونحاول استعادة بعض من سحرها المفقود. هل هناك أمل في إحياء هذا التراث البحري؟ أم سنكتفي فقط بالحلم على قدر ما تبقى من ذكريات؟
ولاستعادة صورة من ذلك الزمن، التقينا إبراهيم، أحد آخر صيادي المراكب الشراعية في بحري بالإسكندرية. في لقاء معه على مقهى صغير يطل على الميناء، تنهد إبراهيم وهو يقول: "زمان، ماكنش فيه ماتورات ولا أدوات حديثة.. كنا نعتمد على الريح والبوصلة وخبرتنا في البحر.. الشراع كان كل حاجة، كنا بنعرف إمتى نرفع الشراع وإمتى ننزله حسب اتجاه الرياح".
![996.jpeg](/Upload/libfiles/466/3/996.jpeg)
أسرار المراكب الشراعية وأدواتها
يضيف إبراهيم: "المراكب دي كانت خفيفة وسريعة، وكانت الأشرعة معمولة من قماش اسمه “العبك”، أحسن نوع فيه كان القماش الـ12 قدم، فخم وأبيض وتقيل عشان ميملحش من البحر، كنا بنشتريه من الزنقة ونوديه للأسطى اللي بيعمل المركب، كل موسم كنا بنجهز الطُعم حسب طبيعة الرياح، الفجر نحضر كل حاجة، وبعد المغرب نطلع، أحيانًا الرحلة بتاخد لحد الفجر، وأحيانًا بنقعد أيام في البحر، ولو معملناش حسابنا للجو والبحر، نرجع بإيدينا فاضية".
جيل جديد وقوارب حديثة
لكن اليوم، ومع تطور القوارب الحديثة، لم يعد هناك مكان للمراكب الشراعية في الصيد. يقول إبراهيم بأسى: "دلوقتي الشباب مش بيفكروا فيها، لأنها محتاجة جهد، لازم تأدف بإيدك لو البحر هادي، أمال هترجع إزاي؟ بقوا يعتمدوا على اللنشات والمراكب اللي بتشتغل بالسولار والبنزين أسرع وأسهل، بس للأسف فقدوا حاجة كانت بتربطنا بالبحر بشكل مختلف".
![997.jpeg](/Upload/libfiles/466/3/997.jpeg)
بين الشراع والموتور: مناظرة بين جيلين
على الميناء نفسه، التقينا عمر خليفة، صياد يبلغ من العمر 48 سنة، يمثل الجيل الجديد الذي يعتمد على القوارب المزودة بالمحركات، كان اللقاء بينه وبين عم إبراهيم مليئًا بالذكريات والمقارنات بين زمن الصيد بالشراع واليوم.
سألته عن أول مرة نزل فيها مركب بشراع؟ ابتسم عمر وهو يسترجع ذكرياته قائلًا: "أول مرة نزلت مع والدي كنا رايحين من بحري للشاطبي. وأنا صغير كنت فاكر إن الموضوع سهل، لكن في الطريق قعدنا نأدف، البحر كان هادي، وأنا انهكت ونمت من التعب! صحيت لقيت المركب مليانة سمك، سمك حي بيلعب حوالينا. لحظتها فتنت بالبحر والصيد، ومن ساعتها وأنا شغال في الصيد".
عندما سألته عن الفارق بين الشراع والموتور، شرد ببصره قائلًا: "الشراع بيديني حاجة مش عندي في المركب بالموتور! أقدر أقرب للشط وأخش في أماكن المراكب الكبيرة مبتقدرش تقرب منها، التحكم أسهل، مفيش صوت موتور ولا استهلاك سولار، البحر هو اللي بيحركني وأنا بس بوجه الشراع".
المراكب الشراعية في أسوان: أيقونة السياحة والتحديات
في أسوان، لا تزال المراكب الشراعية تضفي سحرًا خاصًا على نهر النيل، ما يجعلها وسيلة جذب سياحي مميزة، ورغم انتشار القوارب التي تعمل بالمحركات، إلا أن المراكب الشراعية تحتفظ بجمهورها بفضل حركتها الهادئة وجمال تصميمها.
يشرح الريس أحمد القوربجي، صاحب ورشة تصنيع المراكب الشراعية في غرب أسوان، أن صناعة المركب تستغرق من شهر إلى 45 يومًا.
في الماضي، كانت المراكب تُصنع بالكامل من الخشب، لكن منذ الثمانينات باتت مزيجًا من الحديد والخشب. اليوم، يصل سعر القارب إلى 200 ألف جنيه وفقًا لحجمه.
سباقات المراكب الشراعية: توعية بيئية
تلعب المراكب الشراعية دورًا بارزًا في المسابقات والمبادرات البيئية والتوعوية، ومن أبرز هذه الفعاليات سباق المراكب الشراعية الذي تنظمه وزارة الموارد المائية والري ضمن أسبوع القاهرة للمياه سنويًا منذ 2020.
هل يبحر الشراع من جديد؟
رغم تراجع المراكب الشراعية أمام زحف المحركات الحديثة، إلا أن سحرها لا يزال حاضرًا في ذاكرة البحر وأرواح الصيادين القدامى. ربما لن تعود كما كانت، وربما سيظل الشراع مجرد حكاية تُروى عند الموانئ القديمة. لكن البحر دائمًا لديه أسراره، ويظل السؤال مفتوحًا: هل نشهد يومًا ما عودة الشراع كرمز عملي ومستدام؟ أم أن التكنولوجيا ستبقى هي سيدة البحر؟
0 تعليق