في الاجيال السابقة من المواطنين بعضهم رفض تثمين بيته، او رفض اخلاء بيوته للبلدية بعد التثمين، وكان هؤلاء معذورين لانهم سكنوا في "فر جان" البيوت الطينية الصغيرة، والسطوح متلاصقة والابواب مفتوحة على بعضها بعضا، وأحياناً الجيران، ربما من الاهل، او اخوان ابناء او عم، لذلك كان التخلي عن البيوت لدى البعض، وبخاصة كبار السن من الشيبان والعجائز، بمثابة قطع حبل السرة لدى الطفل المولود حديثاً.
لكن قرار الحكومة لم تصاحبه دموع على الاغتراب، فالقرار هدفه تأسيس كويت حديثة، وبيوت من الطابوق والاسمنت، والحديد، والتكييف مركزي من احدث طراز، انها الكويت الجديدة.
هذه اللوثة التي اصابت الكويتيين بعدما امتلأت انوفهم برائحة النفط، كانت سكرة، استفاقوا منها ووجدوا انفسهم يسكنون مدينة جديدة، ليست شبيهة بمدينتهم الطينية التي نزحوا منها الى مدينة الاحلام، والمال والسيارات اخر موديل.
النفط جعل الحصول على المال سهلاً، والتثمين الذي كان كالسرطان عم بلاؤه الاصحاء والمرضى، انها فتنة لم يكن ثمة مهرب منها، بل العقلاء اضحوا اكثر جنوناً من المجانين، كانوا يبحثون عن واسطة لتثمين بيوتهم والنزوح من الفرجان الترابية القديمة الى الضواحي الاسمنتية، ذات الطراز الاوروبي، فالبيوت احدث طراز، وطرق مبلطة، وشوارع مسفلتة والاضاءة تنور الطرق، وكل شيء بات عال العال.
اما الدشاديش من بعد المريكان والبافتة والغترة المبكرة او الشماغ الاحمر الثقيل كل ذلك اختفى، فالدشداشة ذات القماش المريكان اختفت من على واجهة محال الاقمشة، وحل محلها الطباعة الحديثة صناعة يابانية، وسويسرية وايطالية وانكليزية، والوان على ذوق ذوقك، والسيارات" 8 سلندر" للاغنياء والفقراء" 6 سلندر" و"4 سلندر" للوافدين الجدد.
بعد نحو خمسين سنة واقل صحى الكويتيون ان بلدهم شاخت بسرعة، ولا تناسب او تليق بكويتيين من جيل السبعينات او الثمانينات وجيل الالفين، فعادت معاول الهدم تزيل البيوت التي شيدت في الستينات والسبعينات لبناء فلل وقصور، تكسر العيون، وتخطف القلوب، وشاليهات لايام الجمع والعطلات القصيرة، اما العطلات والاجازات الطويلة فقضاؤها في لندن وباريس ونيس والنمسا واميركا وللشباب تايلند، بعد ما كان اقصى احلامهم عبادان او البصرة!
بعد هذا العرض الطويل لجنون التثمين وجنون هدم الفرجان والاسواق القديمة، وهجر المدينة الى السكن خارج السور، لم تكن المساحة تتسع مع الزيادة السكانية، فمن بعد 120 الف كويتي قفز عددهم الى مليون و500 الف نسمة،هذا بخلاف مليونين من الاخوة الوافدين، وارتفاع اعداد السيارات والازدحامات المرورية القاتلة، ولم يكن امام الحكومة الا تغيير مسارات الطرق وشق اخرى وشوارع جديدة.
الكويت تكبر وسكانها يكثرون، وكل هذا عادي في بلد يسبح على بحر من النفط ويصدر ثلاثة ملايين ونصف المليون برميل يومي.
نحن في هذا البلد الكريم لا نزال نعيش في وضع جنوني، من دون ان نعلم كما نقول بالامثال "وين احنا رايحين"(؟؟؟)
انا، واعوذ بالله من الانا، اقيم في منطقة من المناطق الحديثة، بدأ الاعمار في بداية السبعينات من القرن الماضي، اي نحو 50 عاماً، واجد فللا حديثة تُزال وتقام على انقاضها فلل ذات الثلاثة او الاربعة طوابق، واسأل نفسي: ماذا يحدث في الفريج؟ يقولون للايجار، وبعضهم يعلل سكن الاولاد.
من نصدق ايجار ام سكن للاولاد، بينما هناك 120 الف طلب اسكاني متراكمة على طاولة هيئة الاسكان، فلماذا الزعم انهم يبنون ادواراً عالية لابنائهم في مقابل طلبات اسكانية مضمونة تعمل الحكومة على بنائها؟
في الستينات بدأت النهضة العمرانية، ومن بينها اسواق وشوارع وطرق، وكانت من اجمل الاسواق تخطيطاً وتصميماً وبناءً شارع فهد السالم (شارع الجهراء) في المدينة، وسالم المبارك في منطقة السالمية، وشارع تونس في حولي، هذه الشوارع الثلاثة ازيلت عماراتها واسواقها، واضحت خالية من الذوق والجمال، مجرد ابراج عالية وشبابيك مطلية، ولوحات اعلانات "شقق للايجار" او محال للايجار.
انت تذهب الى بلدان اقدم من الكويت بمئات السنين وما زالت طرقها وعماراتها ذاتها، فلماذا نهدم نحن فيما يتمسك هؤلاء بمدينتهم، لماذا هدمنا اسواق "بن دعيج" و"الغربللي" وسوق اللحم والخضرة والذهب، زاعمين اننا نحافظ على التراث، فاي تراث هذا الذي تضحكون به علينا؟
هناك عبث وهناك مقاولون متاجرون يعبثون، لكن تحت ذريعة التجديد، والحقيقة تكديس الثروة من جيب الحكومة وجيب المواطن، وتكديسها في بنوك اجنبية!
ما اريد ان اقوله: الكويت تبقى في حالة الهدم والبناء الى اخر فلس في صندوق احتياطي الاجيال.
صحافي كويتي
0 تعليق