محليات
0

الدوحة - قنا
يطل شهر رمضان الفضيل علينا كل عام، حاملا معه نفحات روحانية، وأبعادا اجتماعية، كونه ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب فحسب، بل مدرسة إيمانية ومنظومة ثقافية متكاملة، يشكل فيها جسرا بين الماضي والحاضر، حيث تتجلى فيه مظاهر التراث العريق من عادات وتقاليد.
وعلى الرغم من تحديات العصر وتقنياته إلا أن عادات وتقاليد الشهر الفضيل ما زالت راسخة في المجتمع القطري، محافظة على جذورها، وإن لامست تطورات العصر، في انعكاس واضح لتمسك المجتمع القطري بمقومات هويته الوطنية المتجذرة عبر العصور، فضلا عن تعاضد أواصره، بما يشهده من تلاحم اجتماعي، يعكس محبة وتسامحا بين أفراده.
وفي هذا السياق، أكد مؤرخون وباحثون في التراث، في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية " قنا" تمسك المجتمع القطري بتلك التقاليد والعادات التي كانت سائدة في رمضان خلال "زمن لول"، وأنه مازال محافظا عليها، وأن تكيفه مع تحديات العصر وتطوراته، بملامسة هذا التطور، فإن هذا زاده تمسكا بعاداته وتقاليده.
وبدوره، قال السيد خليفة السيد المالكي، باحث في التراث الشعبي، إنه رغم تطورات العصر إلا أن العادات والتقاليد الرمضانية ما زالت قائمة في المجتمع القطري، شأنها في ذلك شأن الحكم والأمثال التي خلفها الآباء والأجداد، ما جعل هذه العادات والتقاليد إرثا للجيل الحالي، والأجيال الأخرى القادمة.
وأضاف أن الأكلات الشعبية، مثل اللقيمات والهريس والثريد، وغيرها، ما زالت حاضرة على موائد القطريين، فضلا عن عادات تجهيز البيوت، استعدادا لقدوم الشهر الفضيل، بجانب الزيارات العائلية التي كانت تزداد في هذا الشهر، وهي كلها عادات وتقاليد ما زالت قائمة إلى اليوم، ولم تختف، ويحرص القطريون على التمسك بها، في الوقت الذي قد يرى فيه البعض أن مظاهر هذه العادات لم تعد بنفس الزخم الذي كانت عليه في السابق، وذلك نتيجة تطورات العصر، والذي صاحبه أيضا تحديث في الكثير من المظاهر الرمضانية، وإن كان جوهرها ومضمونها ما زالا قائمين.
وأوضح أن موائد القطريين لم تعد قاصرة على الأكلات الشعبية، بل أضيفت إليها أكلات أخرى عصرية، فضلا عن الغبقات نفسها، والتي كانت سائدة في الماضي، تقام في البيوت، وقاصرة على المجبوس لسمك الصافي، سواء كان مقليا أو مشويا، مازلت مستمرة إلى اليوم، ولكنها قد تقام في خارج البيوت، سواء في الفنادق أو غيرها، كما أصبحت تتنوع في أكلاتها، دون أن تقتصر على الأكلات الشعبية.
ولفت المالكي إلى متغير آخر في مظاهر الحياة خلال شهر رمضان في "زمن لول" عن اليوم، على نحو ما يبدو في الفريج، من حيث شوارعه وبيوته، حيث تغير كل ذلك، وأصبحت الفرجان تواكب تطورات العصر، فضلا عن الملابس الشعبية التي كان يتم ارتداؤها خلال الشهر الفضيل، بعدما أصبحت قاصرة على ليلة القرنقعوه، وارتداء الأطفال لها.
وبدوره، بين السيد عتيق السليطي باحث في التراث الشعبي أن من بين العادات الرمضانية التي يرى اندثارها استقبال وتوديع الشهر الفضيل بالأهازيج الشعبية، ودق الحب، بالإضافة إلى تدارس القرآن الكريم فيه، من بعد صلاة العشاء والتراويح إلى أن يحين وقت السحور، في مجلس أو في غرفة مخصصة لذلك، حتى لا تختلط التلاوة بالأحاديث الجانبية، حيث كان المصحف من الحجم الكبير يوضع على كرسي من الخشب، ويتعاقب القراء على تلاوته، ويتخلل ذلك وقت للراحة والأكل واحتساء القهوة والشاي، وذلك طوال ليالي الشهر المبارك.
وقال السليطي إنه قبيل انتهاء رمضان يتم احتساب عدد الختمات، ثم يجتمع المقرئون في أحد مجالس الفريج، ويدعون لذلك إمام المسجد أو المطوع، لدعاء ختم القرآن، ويقرأ عليهم بالطريقة القديمة، ثم يقومون بالتأمين عليه، بما يسمى "التثويب"، حيث تثوب هذه الختمات إلى موتاهم وموتى المسلمين، وأثناء دعاء الختمة تقترب النساء من نوافذ المجلس للاستماع إليه، ويؤمن على الدعاء، وبعد الانتهاء تقدم موائد الطعام، من أكلات الهريس والثريد واللقيمات والبلاليط مع القهوة والشاي وتسمى "الفوالة"، وهي من الفأل الحسن.
وتابع: أن من بين العادات التي اندثرت خلال شهر رمضان ما كان يقوم به أهالي الفرجان الكبيرة من استقبال وتوديع الشهر الفضيل بالأهازيج الشعبية، مرددين إياها في أجواء طيبة، ومعها الشهادتان "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ثم ينشدون عند توديعه، "الوداع.. الوداع يا شهر الصيام.. عليك السلام يا شهر الكرام".
وأوضح أن من بين العادات التي اندثرت في رمضان أيضا، تلك الخاصة، قبيل قدوم الشهر الفضيل، عندما كان يتم دق الهريس، وأصبح عوضا عنها، شراء حب الهريس جاهزا، بعدما كان يتم تجهيزه في الماضي يدويا، حيث كان يتم دق حب القمح في " مناحيز"، أو ما يعرف أيضا بـ"مهراس"، وهو نوع من أنواع الهاون الذي يصنع من الخشب، لافتا إلى أنه في السابق كان يصنع من جذع النخل؛ حيث تؤخذ إحدى قطع الجذع، ويحفر في أعلاها حتى تتكون حفرة يضرب فيها حب الهريس، وذلك بواسطة عمود مصنوع من الخشب يسمى " يد المنحاز"، وعادة ما يوضع في رأس هذا العمود قطعة من حديد تسمى "البرقع" حتى يكون تأثيره أكبر.
ومن جانبه، قال السيد عبدالرحمن علي الملا، صاحب متحف الفريج، إن التقاليد الرمضانية لا تزال قائمة إلى اليوم، وخاصة إحياء القرنقعوه، غير أن المختلف فيها عن السابق يكمن في أن إحياء هذه المناسبة يكون بتشكيلات عصرية، سواء من حيث ملابس الأطفال، أو تشكيلات الأكياس والعلب التي يوضع فيها القرنقعوه، على خلاف ما كان في زمن لول، عندما كان إحياء هذه المناسبة بسيطا، لا يغلب عليها أي تكلف.
ومضى يقول إن بعض العادات والتقليد اندثرت مع زمن لول، حينما كان يتم انتظار الأطفال مدفع الإفطار، وسط أجواء شعبية، فضلا عن أن الأكلات الشعبية ذاتها، من ثريد وهريس ولقيمات، كانت هي السائدة على الموائد، غير أن هذه الأكلات، على الرغم من حضورها حاليا على الموائد، إلا أنه يتم تطويرها بإضافات عصرية.
أما السيد كمال ناجي، هاوي وجامع للمقتنيات التراثية، فقال إن شهر رمضان الفضيل في الماضي، كان يحظى باستقبال خاص، حيث كان الأهالي يستقبلونه بسعادة بالغة، ويستعيدون خلاله أجمل الذكريات، فيتذكرون أيامه ولياليه المباركة، وعاداته وتقاليده التي كانت تمارس خلاله، مؤكدا أن من أهم العادات الرمضانية، التي كانت في الماضي، ولا تزال باقية إلى اليوم، " الغبقة"، وإن كان المتغير فيها أنها حاليا قد تقام خارج البيوت، سواء في المطاعم أو الفنادق، على عكس ما كان في الماضي، حيث كانت تقام في الفريج.
وأضاف أن المجتمع القطري كغيره من المجتمعات يتمسك بعاداته وتقاليده التي تسبق استقبال هذا الشهر، وأن بعض تلك التقاليد اختلفت بعض الشيء، إذ هناك العديد من الأطعمة الغذائية والاحتياجات أصبحت متوافرة في المحلات والأسواق، كما أن الأسر ذاتها أصبحت تعتمد في الطهي وإعداد الفطور والسحور الرمضاني على الأجهزة الحديثة في الطهي، على عكس ما كان في السابق، حيث كانت الأسر تعتمد على الحطب في الطهي، كما كانت الأمهات تجهز الطحين لإعداد خبز الرقاق، ودق الحبوب، لعمل الهريس، حيث تجتمع النساء في البيوت، ويقمن بإعداد احتفالات أسرية لدق الحب، عبر أدوات خشبية بسيطة.
وتابع: أن الشباب والآباء كانوا يتكاتفون قديما من أجل تجهيز المساجد لاستقبال المصلين، كما كانت تجمعهم لقاءات عقب صلاة التراويح، علاوة على الزيارات العائلية، وتوزيع الطعام بين الأهل والجيران، ما يعكس بساطة تلك العادات في الماضي، والتي كانت تعزز من اللحمة والترابط بين جميع فئات المجتمع.
ولفت ناجي إلى أن شهر رمضان في زمن لول، كان يتميز بالبساطة وكثرة اللقاءات والزيارات الاجتماعية والعائلية، بينما الآن تضاءلت هذه الزيارات، لانشغال البعض بأعمالهم، علاوة على تطور بعض العادات مثل الفطور خارج المنزل، سواء في المطاعم أو الخيام، مؤكدا أنه رغم كل المتغيرات التي طرأت على العادات والتقاليد الرمضانية، إلا أن الشعب القطري ما زال محافظا عليها، انطلاقا من جذوره التاريخية الراسخة.
ومن جهته، أكد السيد محمد همام فكري باحث في التاريخ والتراث أن شهر رمضان في قطر يعد مناسبة دينية واجتماعية تحمل معها طقوسا وتقاليد متوارثة تعكس الهوية القطرية، وعلى الرغم من التغيرات الاجتماعية والتطورات العصرية، فلا تزال العديد من التقاليد الرمضانية قائمة، وإن كانت قد شهدت بعض التغيرات في أشكالها وممارساتها.
ولفت إلى من أبرز التقاليد القطرية التي ما زالت مستمرة، مدفع الإفطار، وهو تقليد رمضاني قديم ما زال يحافظ عليه حتى اليوم، وأن هذا التقليد انتقل خلال الفترة الأخيرة إلى العديد من المدن القطرية، بجانب القرنقعوه، وهي المناسبة التي يحتفل الأطفال بليلتها في منتصف رمضان، حيث يرتدون الملابس التقليدية ويجوبون الأحياء لجمع الحلويات والمكسرات.
وقال فكري إن العائلات القطرية لاتزال تحرص على التجمع في الولائم الرمضانية، حيث تقدم الأطباق التقليدية مثل الهريس والثريد واللقيمات، فضلا عن استمرار المجالس الرمضانية في استقبال الضيوف لتبادل الأحاديث وتناول السحور، وهو تقليد يعزز الروابط الاجتماعية، مشددا على أنه لمواجهة تحديات العصر الحديث يجب اتخاذ خطوات للحفاظ على هذه التقاليد، ومنها تعزيز الوعي الثقافي بتعليم الأجيال الجديدة أهمية التقاليد الرمضانية من خلال المدارس والبرامج الإعلامية، وتنظيم الفعاليات التراثية، من مهرجانات واحتفالات تحاكي الأجواء الرمضانية القديمة، مثل أسواق رمضان الشعبية وفعاليات القرنقعوه.
وشدد على ضرورة توظيف التكنولوجيا، باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر القصص والمعلومات عن التقاليد القطرية، وإنتاج محتوى رقمي يربط الأجيال الشابة بتراثهم، حيث تلعب المؤسسات الثقافية والإعلامية دورا مهما في حفظ التراث الرمضاني من خلال تنظيم المهرجانات التراثية، مثل فعاليات القرنقعوه والمدفع الرمضاني والأسواق التقليدية، بجانب إنتاج محتوى توعوي عبر وسائل الإعلام لتعريف المجتمع بأهمية العادات الرمضانية، ودعم الحرفيين والمبادرات التي تحافظ على الفنون والصناعات التقليدية المرتبطة بالشهر الكريم، وكلها خطوات يمكنها الحفاظ على روح رمضان الأصيلة في قطر، مع التكيف مع التطورات العصرية دون فقدان الهوية الثقافية.
اقرأ المزيد
مساحة إعلانية
0 تعليق