في المقالة السابقة حاولت مراجعة ما يمثله كتاب "أكاديميا مظلمة: كيف تموت الجامعات"؟ وجملة التحذيرات التي سعى عبرها الكاتب فليمينغ الى طرق الأجراس، منبهاً من التحولات السلبية التي قد تواجه التعليم العالي في العصر الحديث.
وعبّر بوضوح عن هواجسه من إزاحة أدوار الجامعات كونها محركات للتنمية المستدامة، إلى أن تصبح "بيئات تنافسية مرهقة تضع الربح فوق المعرفة".
أشرنا كذلك في مقالتنا السابقة إلى مسألتين جوهريتين كانت الأولى تتعلق بالتعليم العالي، وأزمة "التسليع"، وتناول الكاتب في الثانية جانب الأكاديميين حين تحدث عن التوازن النفسي والذهني والتفاوت في الأجور.
نستكمل في هذه المقالة الحديث عن جوانب أخرى تسترعي الانتباه لما ورد في الكتاب، ومن أهمها، وكما اشرنا في المقالة السابقة الى نقطتين، هنا النقطة الثالثة: خصخصة الجامعات وفقدان العدالة الاجتماعية (الهدف 10: الحد من أوجه عدم المساواة).
من المشكلات الأساسية التي يناقشها الكتاب العدالة الاجتماعية ومستوى التباين في الأجور داخل الجامعات.
ففي الوقت الذي يحصل فيه الإداريون وكبار المسؤولين التنفيذيين على رواتب عالية تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات، يُجبر العديد من المحاضرين على العمل بعقود قصيرة الأجل، من دون ضمانات وظيفية، أو تأمين وحماية.
هذا التفاوت يتناقض مع الهدف العاشر من التنمية المستدامة (الحد من أوجه عدم المساواة)، اذ تؤدي هذه السياسات إلى خلق فجوات اجتماعية واقتصادية في المؤسسات التعليمية، ما يضر بالاستقرار الأكاديمي، ويعزز الإحباط بين الباحثين الشباب.
الرابعة: البيروقراطية والقيود الإدارية: كيف تؤثر على الابتكار الأكاديمي؟ (الهدف 9: الصناعة والابتكار والبنية التحتية).
يشير الكتاب إلى أن الجامعات اليوم تعاني من تضخم بيروقراطي يُعرقل البحث العلمي بدلاً من دعمه.
فالقرارات الأكاديمية تُدار من قبل لجان إدارية غير متخصصة، ما يجعل عملية اتخاذ القرار تعتمد على الربحية، بدلاً من دعم المشاريع البحثية طويلة الأمد.
هذا الاتجاه يُضعف الابتكار، وهو ما يتعارض مع الهدف التاسع من التنمية المستدامة (الصناعة والابتكار والبنية التحتية)، اذ يُفترض أن تكون الجامعات مراكز للإبداع والتقدم العلمي، وليس مجرد مؤسسات تسعى لتحقيق عوائد مالية على حساب البحث الجاد.
الخامسة: إصلاح التعليم العالي: نحو نموذج مستدام
في ظل هذه التحديات، يقدم فليمينغ بعض الحلول المقترحة لإصلاح التعليم العالي:
1 - إعادة الجامعات إلى دورها الأكاديمي الحقيقي، والتركيز على التعليم كحق أساسي، وليس كسلعة تجارية.
2 - ضمان استقلالية الأكاديميين، منحهم الحرية في البحث والتدريس، دون قيود بيروقراطية مرهقة.
3 - تحقيق العدالة في توزيع الأجور داخل الجامعات، لضمان بيئة عمل عادلة ومستدامة.
4 - تعزيز الصحة الذهنية والنفسية للأكاديميين والطلاب، من خلال تقليل الضغوط غير المبررة، وإعادة النظر في مؤشرات الأداء الحالية.
أردد بين كثيرين من زملائي وأصدقائي أن لاعبي كرة القدم يحاولون التهديف في المرمى، ويبذلون لذلك جهداً متواصلاً، لكن اللوحة الإلكترونية في الملعب لا تدون أرقام الفوز إلا في حالة الوصول إلى المرمى وتسجيل هدف!
لذلك، من الضروري إعادة النظر باستمرار في سياسات التعليم العالي، بما يضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما في مجالات التعليم الجيد، والعمل اللائق، والابتكار، والعدالة الاجتماعية، فالجامعات ليست مجرد مؤسسات اقتصادية، بل هي أساس لصناعة العقول، وتحقيق مستقبل أكثر استدامة للبشرية.
خبير استدامة
0 تعليق