الإصغاء في بعض عالمنا العربي

24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الإصغاءُ، في اللغة، هو الاستماعُ بانتباه، أو هو حُسنُ الإنصات.

وفي حيثيّات الحوار، هو نصفُ المحادثة، وينتجُ عن موهبة وإرادة، ويعتبرُ بعضُ المفكِّرين أنّه يتمتّعُ بحيازةٍ حصريّةٍ لحقّانيةِ التَبَلُّغِ والفَهم، وهنا يكمنُ أثرُه الإيجابي.

لكنّ المشكلة تَكمنُ في أنّنا، وخصوصاً في بعض عالَمنا العربي، أسأنا، الى حدٍّ واسع، التّعاطي مع آذانِنا، فاندلعَت علاقةٌ نزاعيّة بيننا، وغاب عَنّا الإحساسُ الحيويّ بإلزاميّة وجود دقّة السّمع، ليصبح ما تتلقّاه أسماعُنا شيئًا من الضّجيج الصّاخب.

من هنا، جاءت ردّات الفعل تُجاه ما نتلقّاه، جملةً من الارتكابات الشّنيعة ضدّ المنطق، وأصبحت إجاباتُنا غضبيّة، مجّانية، قاسية، فتَحوَّلَ واحدُنا الى مأساةٍ موضوعيّة متنقِّلة. وليس ذلك سوى جزءٍ من الأضرار التي تنتجُ عن إدمان الثّرثرة السّائدة في مجتمعنا السياسي.

لقد غابت، عندنا، في بعضِ عالمنا العربي، ثقافة الإصغاء، فتبخَّرَ التّواصلُ الرّاقي. فبدلًا من أن تكون آذانُنا جسرَ عبور للأخر إلينا، فيكون الحوارُ التّبادليّ مفيداً، أصبح السّمعُ مقموعاً بالزّعيق، بحيث صارت الآذان بحاجةٍ الى صيانة. وأَبرزُ مثلٍ على ذلك، البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تستضيف متحاوِرين من أصحابِ الألقابِ الرنّانة، في عناوين سياسية، فهؤلاءِ يتكلّمون، معاً، وفي الوقتِ نفسِه، ويختلطُ الصّراخُ بالصّياح، وينضبُ الدّمُ من وجوهِهم، فكأنّهم يواجهون فرساناً في ساحات القتال، ويريدون أن يعالجوهم بطَعناتٍ قاتلة.

وهكذا، لا يستطيعُ المستمِعُ أن يفهمَ شيئًا، أو يفيد، فتكون البرامجُ، تلك، متدنّيةَ القيمة، وبغيرِ فائدة، وجدوى، وبالتالي، فإنّ انحجابَها خيرٌ من بَثِّها.

إنّ حُسن الاستماع الذي يوصَفُ، أساساً، بأنّه قاعدةُ رزانةٍ ونباهةٍ واتّزانٍ عقليٍّ لائق، أضحى كالأرض البُور، بدلاً من أن يكون باباً من أبواب العقل، يتكاملُ مع أبواب الحواس الأخرى ليتحوّل "مؤسّسة" إراديّة ذات حقّ طبيعي.

من هذا المنطلَق، لا بدّ من إعطاء امتياز لفَنّ السّماع، وتحرير الآذان من عصور الرِقّ، ومن وباءٍ الثرثرةِ الخبيث، وذلك بإعلانِ ما يُسَمّى حرب رَدّة الى ديمقراطية الاستماع، ما يوفّرُ انعتاقَ السّمع من الذين تدورُ طواحينُ ألسنتِهم على فراغٍ، فنسمعُ جعجعةً ولا نرى طَحناً، كما يقول توفيق يوسف عوّاد في روايته "طواحين بيروت".

لقد آنَ زمنُ مناشدةِ الآذان لكي تُعلنَ انتفاضةً تُعيد إليها عهدَ انفتاحها على كلّ استفادة، وتمكّنُها، أيضاً، من فِعلِ الغَربَلَة، فترمي جانباً السّخيفَ، والمُغرِضَ، واللّا منطقي، وما أكثرَه عندَنا.

وهذه الانتفاضةُ ممكِنة إذا فَعَّلنا ما نتمتّعُ من احتياطي العقل، وهكذا، نقدرُ على تحقيق نقلةٍ نوعيّة من هُوّةِ الضّجيج الى ظروفِ التلذّذ السّماعي.

وقد أشار بعض الحكماء، في ما مضى، الى أنّ تكوينَ رأي، أو موقف، أو فكرة، أو رَدّ، يبدأ، حتماً، بماكينةٍ ناشطةٍ هي الإصغاء الذي يُنتِجُ استيعاباً وفَهماً، فتنتقل المعطياتُ المُتلقّاةُ، بسلاسةٍ وانضباط، الى حيِّزِ العقل، حيث نظامُ التّحليل والاستنتاج.

إنّ قيمةَ الإصغاء، ستراتيجياً، هي العملُ على إنقاذ الآذان من عقوبةِ تعذيبها القسريّةِ بالصّخَب، ما يُعيد إليها كرامتَها الإصغائيّة، وهذا حقُّها الطبيعي.

أمّا الشّرط المُلزِم، أو الضّمانة الوحيدة، فيبقى في إشاعة الوعي الذي يميّزُ بين ما ينتهكُ نواميس الإصغاء، وما يتقيّد بها، ليضع، بذلك، خطَّ تماسٍ بين متعةِ الاستماع، وإدمان الثّرثرة السيّالة.

علينا، في بعض عالمنا العربي، أن نتعلّم أنّ الصَّمتَ بهدفِ الاستماع، هو استمتاعٌ ذكيٌّ ينقّي حاسّةَ السّمع، ويرهّفُها، وأنّ الإصغاءَ مَلَكَةٌ تشكّلُ واحدًا من الأصول أو المعايير التي تؤدّي الى التّفكير الصّحيح.

من هنا، فالإصغاءُ مهارةٌ تُزيل عاملَ التشتّت، والزَّوغان، وترمِّمُ العلاقةَ بين المستمِعِ والمُحَدِّث. ولمّا كان الإصغاءُ فنًّا يُتقنُهُ الذوّاقة، ويحدُّ من المبالغةِ في الكلام، نسترشدُ، في هذا المجال، بما قالَه أحدُ الحكماء لابنِه، كما نقلَه ابنُ عبدِ ربِّه، في "العقد الفريد"، قال: "يا بُنَيَّ، تَعَلَّمْ حُسنَ الاستماع كما تتعلَّم حُسنَ الحديث. ولْيَعلَمِ الناسُ أنَّكَ أَحرَصُ على أن تَسمَعَ منكَ على أن تقول". واستنادًا، عسى أن تُفَرِّخَ الرّؤوسُ آذانًا في بعضِ عالمنا العربي.

كاتب، أستاذ جامعي لبناني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق