عالم متخيل بالكامل ذلك الذي صوره الروائي والشاعر الأردني جلال برجس في روايته الأخيرة «معزوفة اليوم السابع»، مدينة بأحياء سبعة مرقمة وبدون أسماء، ومخيم للمهمشين من الغجر الذين لا مكان لهم في المدينة، ولا للأعمال الدنيا كجمع القمامة، أما أسماء الشخصيات فهي من عالم آخر ابتدعه الكاتب، لا هي عربية ولا أجنبية ولكنها أسماء سميتموها، إلى هنا ولا بأس بالعالم المتخيل ذاك، لكن الكاتب يجعل أحياء المدينة ومخيم الغجر المهمشين من أصل واحد، جد واحد يبدأ به الرواية، الأصل (واحد) تزوج وأنجب ثم أنجب من أنجب، ليخرج هؤلاء من كهف الجد يبنون مدينة بسبعة أحياء ومخيم للغجر، ولو أن الكاتب ترك الجد الأول يراقب ما يحدث بين أحفاده من كهفه البعيد، لكان هو الجبالي في رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، لكن كاتبنا أبقى الجد إلى حين، حيث يكفي ليرى مدينة الأحفاد من جديد ثم يموت، ويدفن في قبر منبوذ لا يصله أحد، وحتى لا تموت الحكمة مع الجد فإنه يكتب مخطوطة يسجل فيها ما يراه من مستقبل ذريته، وكأنه يكتب نبوءات نوستراداموس حول كل ما سوف يحدث بعد رحيله، بل إنه يقدم الحلول لكوارث قادمة.
الإسقاطات أو ما رأيته إسقاطا في رواية معزوفة كاليوم السابع كثيرة، فهذا الوباء الذي حل بالمدينة وأهلها.. هل يشبه وباء كوفيد ١٩ الذي حُبسنا من أجله في البيوت منعا للعدوى، أيا كان كهنة الوباء واختفاء الانعكاس في المرايا، فإن تلك الانعكاسات تخرج في شكل صور شبحية تطالب بالخروج من الحياة بشكل كامل، وباء كوفيد ١٩ والذي عانى منه العالم لأكثر من عامين والذي ارتفع حوله اللغط، علمنا أو سمعنا أنه مؤامرة من هؤلاء على هؤلاء للخلاص من هؤلاء.. وكذا الوباء الذي حل بمدينة الجد الخيالية، أصابع الشر تتحرك وتخطط، وتكذب وتقتل الأخيار.
وأرصد إسقاطا آخر للكاتب أو ربما يكون إسقاطا على الماسونية العالمية، هي في كل مكان وفي كل شخص وتعرف كل شيء وتصل إلى من تشاء دون صعوبة، هذه هي عصابة الطائر الأسود في الرواية، وكما سوبرمان الذي يتحدى شرور العالم.. يتصدى شاب غجري للماسونية العالمية أو عصابة الطائر الأسود، بالعودة إلى الأصل، الخير الأصيل في مخطوطة الجد الأول، ووصاياه للخلاص، الشاب الغجري أو رجل الخلاص، يقدم الشفاء بالعزف على الناي، ناي الجد الأول.. الأصل، الخير الأصيل، موسيقى الناي أو لنقل صوت الطبيعة هي الشفاء لأي داء.
قد يكون هذا ما أرادت الرواية قوله، ورغم ذلك تبقى الطيور السوداء والطيور البيضاء تتقاتل كما يتقاتل البشر على الأرض، يأخذ المخلص الشاب / الغجري «باختو» كل أهل المدينة من كل أحيائها وغجرها إلى جبل الجد الأول، ليس فقط البشر لكن الحيوانات والحشرات أيضا تتبع صوت الناي أو صوت الطبيعة، وهنا أقرأ إسقاطا آخر وهو الخلاص في سفينة نوح وترك الأشرار يغرقون، إلا أن الكاتب لا يترك سفينة نوح تأخذ البشر إلى النجاة كما نعتقد، بل يعود بكل هؤلاء المقتتلين من طيور بيضاء وأخرى سوداء، يعود كل هؤلاء إلى مدينتهم يتقاسمون الخير والشر والأحياء، ليبقى باختو والحبيبة، عاريين إلا من ناي قديم / سر الحياة الهانئة، ناي منذور لزمن قادم، بهذا يعود آدم وحواء إلى جنتهم - إسقاط آخر - يرقبون ما يحدث على الأرض أو ينتظرون أن تخرج من ذريتهم أجناس أخرى تكمل الحياة، وقد تكون قادرة على فهم صوت الناي، صوت الطبيعة والصفاء، فأي من هذه الإسقاطات يمكن أن تعبر عن رواية جلال برجس، معزوفة اليوم السابع؟
0 تعليق